هل تصبح وثيقة الأخوة الإنسانية دستورا عالميا؟
وثيقة الأخوة الإنسانية تعد بمثابة اللبنة الأهم في طريق وقف العنف، حيث جاءت بعد أول وأهم حوار إنساني في تاريخ البشرية.
في خطوة مهمة نحو إيجاد عالم أكثر أمنا وتسامحا وسلاما، صدرت وثيقة "الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، خلال "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية"، الذي نظمه مجلس حكماء المسلمين، تحت الرعاية الكريمة للشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
الوثيقة وقعها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وقداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، في العاصمة الإماراتية أبوظبي، مساء الإثنين الماضي، وذلك خلال فعاليات اللقاء الذي احتضنه "صرح زايد" المؤسس.
- دلالات وثيقة "الأخوة الإنسانية" في محاصرة الإرهاب
- وثيقة "الأخوة الإنسانية".. مطالب وحقائق وتحذيرات وتعهدات
ولا شك أن الوثيقة تعد دعوة لكل دول العالم بقياداتها وشعوبها لتبني قيم الإخاء والسلام والتسامح، وحتى يستطيع العالم مواجهة نواتج ومآسي الحروب وما خلفاتها من دمار وعنف، كما أن الوثيقة ترسل رسالة للعالم بضرورة التكاتف معا لمساندة الفئات المستضعفة في كل المجتمعات والتي تحتاج إلى مد يد العون لها لمواجهة تحديات الحياة الصعبة.
وفي هذا التحليل سوف تثار بعض التساؤلات حول تلك الوثيقة، والتي منها: هل يمكن لوثيقة "الأخوة الإنسانية" أن تكون دستورا للمحبة والتسامح؟! وهل يمكن للوثيقة التي شهد توقيعها هذه الكوكبة الكبيرة من رموز العالم وقادة الأديان وعلمائها ورجال الكنائس والسياسة والفكر والأدب أن تكون المنقذ للإنسانية من دعوات الكراهية والعنف والتطرف والظلم والإرهاب، وهل يمكن أن تكون تلك الوثيقة المنطلق الراهن الذي يحتاج إليه هذا العالم لوقف نزيف الحروب والإرهاب، هذه الأسئلة وغيرها سنسعى للإجابة عنها، وذلك على النحو التالي:
هل تصبح الوثيقة دستور الإنسانية الأول في هذا العالم الذي نعيشه؟
ما من شك في أن وثيقة الأخوة الإنسانية يمكن أن تصبح أول دستور للمبادئ الإنسانية العليا السمحاء، لما تتضمنه من دعوة صريحة لقطبي ديني العالم السماويين (الإسلام والمسيحية) ولكل الدول بقياداتها وشعوبها وبمختلف المستويات لنبذ الصراع والبعد عن الخلافات التي لطالما أدت إلى الانقسام والفرقة، كما أنها تدعو للعمل على نشر قيم الحرية والمحبة والسلام، وبهذه التعاليم الموجودة في الوثيقة يتجنب العالم شرور الحروب ومآسيها، ويأخذ الأوطان نحو الأخوة والتعايش ليس بين أبناء البلد الواحد، ولكن بين كل البشر.
وتنص الوثيقة، في مقدمتها، على القيم العليا التي يؤمن بها كل الأخيار من البشر، كما تؤكد أن الإيمان يحمل المؤمن على أن يرى في الآخر أخا له، وعليه أن يؤازره ويحبه، وانطلاقا من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعاً وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته، فإن المؤمن مدعو للتعبير عن هذه الأخوة الإنسانية بالاعتناء بالخليقة وبالكون كله، وبتقديم العون لكل إنسان، لا سيما الضعفاء من البشر، والأشخاص الأكثر حاجة وعوزا.
وكشفت ردود الفعل الدولية عن أن هذه الوثيقة تعد هي الأهم في تاريخ العلاقة بين الإسلام والمسيحية فلم يسبق أن تم توقيع وثيقة بهذا المضمون على مستوى تاريخ البشرية، خاصة أنها تؤسس لحياة وبدايات جديدة بين البشر، مبنية على الإخاء والتسامح والتعايش السلمي، على وجه الأرض.
كما تعد الوثيقة بمثابة منارة وخارطة طريق للأجيال الحالية والقادمة، حيث تدعو إلى التمسك بقيم السلام والتعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وتكرّس من ضرورة العمل بقواعد الحكمة وتطبيق مبادئ العدل والإحسان وتربية الأجيال التربية السليمة على تلك المبادئ العليا السمحاء بعيدا عن الأفكار المتطرفة والهدامة.
وترسخ الوثيقة أيضا ضرورة نشر قيم الحرية والتي على رأسها حرية الاعتقاد والاختلاف، فمن حق كل إنسان أن يحصل على حريته لعقيدته ولفكره، وأيضا حرية التعبير والفكر والممارسة ترسيخا للتعايش بين البشر وقبول الآخر حتى يمكن أن نعيش بسلام قائم على هذا التفاهم الإنساني المنشود.
هل الوثيقة خطوة في طريق وقف العنف والإرهاب؟
لا ينكر أحد في هذا العالم المتصارع حجم المعاناة والكوارث والمآسي التي خلفتها الحروب والعنف والإرهاب، وربما أن أكثر تحدٍ يمر به العالم الآن هو مواجهة هذه الكوارث والأزمات، ومما لا شك فيه أن وثيقة الأخوة الإنسانية تثبت للعالم كله أن الجميع إخوة، وأن الديانات هي مصدر الإلهام الأعلى لنشر قيم الإخاء والتعايش السلمي واحترام الآخر عقيدته وفكره ودينه، وربما أن الحروب على مر التاريخ لم تنشأ بسبب الخلافات الدينية، وإنما من خلال استغلال البشر للدين للترويج لأفكارهم الهدامة، لذلك تأتي أهمية تلك الوثيقة في أنها جاءت في هذا التوقيت بالتحديد، بعدما أصبحت هناك رؤية ونظرة من الغرب لمنطقة الشرق الأوسط على أنها مصدر الإرهاب والحروب والنزاعات.
الوثيقة أكدت، في عباراتها، أن الإرهاب ظاهرة بغيضة تُهدد أمن وحياة البشر، سواء كانوا في الشرق أو الغرب، وفي الشمال أو الجنوب، الجميع يعاني من تلك الظاهرة، فهي تلاحق الناس بالفزع والرعب وترقب الأسوأ، ليس نتاجا للدين -حتى وإن رفع الإرهابيون لافتاته ولبسوا شاراته- بل هو نتيجة لتراكمات المفاهيم والقيم الخاطئة لنصوص الأديان وتفسيراتها، وسياسات التجويع والفقر والتخلف، أيضا لسياسات الظلم والبطش والتعالي ولفظ الآخر ورفضه؛ لذا حثت الوثيقة على التوحد والتكاتف للتصدي لهذا الإرهاب ووقف دعم حركاته التنظيمية سواء بالمال أو السلاح أو التخطيط أو التأييد أو التبرير، أو بتوفير البيئة والمناخ اللازم لها، وكذلك الغطاء الإعلامي الذي ساعد على انتشارها ونشر قيمها المتطرفة، واعتبار ذلك من الجرائم الدولية التي تهدد الأمن والسلم الدوليين، ويجب إدانة ذلك التطرف بكل أشكاله وصوره، والعمل على التصدي له بكل الطرق.
وقد أشارت الوثيقة أيضا إلى ضرورة ترسيخ وتطبيق مفهوم المواطنة، بتحقيق مبادئ المساواة بين أبناء البلد الواحد في الواجبات والحقوق، والتي ستؤدي إلى استقرار المجتمع بحيث ينعم كل أبنائه بالعدل والحق، كما أن الوثيقة حثت على العمل على ترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة في مجتمعاتنا، والتخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح "الأقليات" الذي يحمل في طياته الإحساس بالعزلة والدونية، ويمهد لبذور الفتن والشقاق، ويصادر على استحقاقات وحقوق بعض المواطنين الدينية والمدنية، ويؤدي إلى ممارسة التمييز ضدهم.
لذا فإن هذا الوثيقة بمثابة اللبنة الأهم في طريق وقف العنف والتطرف والإرهاب، حيث جاءت بعد أول وأهم حوار إنساني في تاريخ البشرية بين الإسلام والمسيحية بهدف نشر ثقافة السلام وتعزيز ثقافة العيش المشترك ومحاربة الفكر المتطرف والمتعصب في مختلف الأديان.
من صدام الحضارات إلى وثيقة الأخوة الإنسانية
استطاعت وثيقة الأخوة الإنسانية أن تقدم العلاج الأمثل للأمراض المزمنة التي تعاني منها جميع المجتمعات، نافية بذلك حتمية وضرورة أن يحدث صدام بين الحضارات خاصة بين الشرق والغرب، فقدمت حلولا واقتراحات وطرقا يمكن من خلالها استئصال ظواهر التطرف والعنف، والخروج بتوصيات تساعد على تحقيق السلام بين مختلف الطوائف والأديان؛ ومن الممكن أيضا أن نصنع من خلالها سفراء للسلام ينقلون تجاربهم في الحوار والعيش المشترك إلى مجتمعاتهم.
كما تضمنت الوثيقة في نصوصها أن التاريخ يؤكد أن التطرف الديني والقومي والتعصب قد أثمر في العالم، سواء في الغرب أو الشرق، ما يمكن أن نطلق عليه بوادر "حرب عالمية ثالثة على عدة أجزاء"، بدأت تكشف عن وجهها القبيح في كثير من الأماكن، وعن أوضاع مأساوية لا يُعرف -على وجه الدقة - عدد من خلفتهم من قتلى وأرامل وثكالى وأيتام، وهناك أماكن أخرى يجري إعدادها لمزيد من الانفجار وتكديس السلاح وجلب الذخائر، في وضع عالمي تسيطر عليه الضبابية وخيبة الأمل والخوف من المستقبل، وتتحكم فيه المصالح المادية الضيقة، وقد تضمنت الوثيقة الإشارات إلى أن العلاقة بين الشرق والغرب هي ضرورة قصوى لكليهما، لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها، ليغتني كلاهما من الحضارة الأخرى عبر التبادل وحوار الثقافات؛ حيث إنه بإمكان الغرب أن يجد في حضارة الشرق ما يعالج به بعض أمراضه الروحية والدينية التي نتجت عن طغيان الجانب المادي، كما بإمكان الشرق أن يجد في حضارة الغرب كثيرا مما يساعد على انتشاله من حالات الضعف والفرقة والصراع والتراجع العلمي والتقني والثقافي، ومن المهم التأكيد على ضرورة الانتباه للفوارق الدينية والثقافية والتاريخية التي تدخل عنصرا أساسيا في تكوين شخصية الإنسان الشرقي، وثقافته وحضارته، والتأكيد على أهمية العمل على ترسيخ الحقوق الإنسانية العامة المشتركة، بما يسهم في ضمان حياة كريمة لجميع البشر في الشرق والغرب بعيدا عن سياسة الكيل بمكيالين.
هل يمكن أن تسهم وثيقة الأخوة الإنسانية في بناء عالم أكثر تسامحا؟
إن تلك الوثيقة العليا للأخوة بين البشر ركزت على تحقيق أهداف عليا زرعتها القيم الدينية سواء الإسلام أو المسيحية للعيش بين البشر، فقد دعت بصورة قاطعة وواضحة لضرورة نشر قيم الإخاء والسلام واحترام الآخر والبعد عن الذاتية والأنانية والأطماع، والتي تعد بالأساس المنطلق القوي لكل الأفكار المتطرفة والهدامة القائمة على ثقافة الكراهية والظلم والعنف.
ولكي تصل الوثيقة لأهدافها العليا المتمثلة في بناء عالم يقوم على التسامح والتعايش السلمي، فإنه يجب أن يتم عبر مجموعة من الطرق، التي نود الإشارة إليها على النحو التالي:
يجب أن يتبنى قادة وحكومات هذا العالم الذي نعيش فيه، وصناع السياسات، ومن بأيديهم مصير هذه الشعوب، تلك القيم العليا فعليا، ومن ثم فعليهم التدخل الفوري لوقف الصراعات الدائرة، ودرء الفتن والخلافات التي أودت بحياة الملايين من البشر.
يجب أن يتحقق التعايش السلمي في كل المجتمعات من خلال إدماج الجميع تحت مظلة واحدة وهي الإخاء والتسامح، وهذا سيحقق التعاون بين الشعوب في النهاية، مع ضرورة احتضان أبناء الطوائف الدينية الأقل في بلد تسوده أغلبية دينية أخرى، كاحتضان الشعوب للطوائف المسيحية في دولهم، باعتبار أن المسيحيين هم جزء من هذه الأمة، وليسوا أقلية، وإدماج المسلمين في الغرب في دولهم المضيفة واحترام القوانين المحلية.
النقطة الأهم التي ستعد حائط الصد أمام نشر قيم التطرف والعنف والكراهية والازدراء، هي العمل الجاد من أجل نشر ثقافة التسامح والتعايش.
ومن الجدير بالذكر أنه لتحقيق كل ذلك يجب العمل أيضا على تبني تلك القيم العليا من قبل المنظمات الدولية بمختلف أنواعها وبخاصة التي تعمل في مجالات الحوار بين الأديان، حتى يتسنى لها نشر تلك القيم لما لها من تأثير واسع في كل مجتمعات العالم، هذا بالإضافة لتأثيرها الواسع على الشباب وثقافتهم، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط.
وثيقة الأخوة الإنسانية اللبنة الأهم في عام التسامح
إن وثيقة الأخوة الإنسانية هي اللبنة الأهم في عام التسامح الذي دعت له القيادة الرشيدة في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد افتتح هذا العام بتوقيع تلك الوثيقة التي تعد بمثابة خريطة الطريق لتحقيق السلام والتسامح والرحمة والمحبة بين جميع البشر في مختلف مشاربهم، والتي تؤسس للسلام بين جميع دول العالم، فضلاً عن استبدال كل ما ينفق على السلاح في سبيل سد عوز الدول الفقيرة وتعليم أبنائها لينهضوا بها إلى مصاف الدول المتقدمة، وبهذا تحقق الوثيقة معنى الأخوة الإنسانية على أكمل وجه.
وختامًا، فإننا نرى أن وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعت في أبوظبي هي نداء للبشر جميعا ليلتفوا حول راية التسامح والإخاء، وهي أيضا بمثابة إعلان عالمي للنوايا الصادقة والصالحة من أجل دعوة كل من يحملون في قلوبهم إيمانا بالله وإيمانا بالأخوة الإنسانية أن يتوحدوا ويعملوا معا من أجل أن تصبح هذه الوثيقة دليلاً للأجيال القادمة، يأخذهم إلى ثقافة الاحترام المتبادل والتعايش السلمي.
كما أن توقيع تلك الوثيقة الأولى من نوعها في هذا العالم على أرض الإمارات وبالأخص في مدينة أبوظبي يعطي دلالة كبيرة لترسيخ مكانة وقيمة هذه المدينة كعاصمة عالمية للتسامح، فضلاً عن أن جمع هذا الحشد العالمي من المسلمين والمسيحيين في هذا الحدث يعطي رسالة للعالم أجمع حول ما حققته أبوظبي من توحد وتآخٍ بين جميع المؤمنين بالأديان السماوية وغيرهم، وكل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة، وبهذا تصبح تلك الوثيقة رسالة ونداء لكل البشر لنبذ العنف والتطرف والكراهية.