وثيقة "الأخوة الإنسانية".. بنود تستلهم روحها من "العهد النبوي"
وثيقة الأخوة الإنسانية أعادت ذاكرة التاريخ نحو أول وثيقة تسامح بين الأديان وضع بنودها نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أعادت وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، على أرض الإمارات، الإثنين، ذاكرة التاريخ 1400 عام إلى الوراء، نحو أول وثيقة للتسامح بين الأديان.
- وثيقة "الأخوة الإنسانية".. منارة العالم للتسامح من أرض الإمارات
- الشرق والغرب يحتفيان بـ"الأخوة الإنسانية": خارطة طريق للخير
وكانت هذه الوثيقة هي "صحيفة المدينة" التي وضع بنودها نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- عندما هاجر من مكة إلى المدينة في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623م.
أول وثيقة للتسامح
وتعد صحيفة المدينة أو دستور المدينة، أو كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو العهد النبوي، وكلها أسماء وضعت لوصف أول دستور مدني متكامل في التاريخ أرسى قواعد المواطنة وثبت أركان العدل بين مكونات المجتمع وطوائفه، أكثر الأدلة وضوحا على سماحة الإسلام في التعامل مع المخالفين له في الاعتقاد، بل وأول وثيقة حقوقية، وعقد مواطنة متقدم على عصره.
أول وثيقة للتسامح "صحيفة المدينة" كانت حاضرة في مبادئها النبوية وبنودها الإيمانية الداعية إلى المساواة والعدل وحرية العقيدة في "وثيقة الأخوة الإنسانية" التي تعد بدورها أول خارطة طريق لخير البشرية في العصر الحديث، يتفق عليها رمزان دينيان بقيمة وقامة قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر.
وكانت العاصمة الإماراتية أبوظبي، عاصمة التسامح، احتضنت في مستهل عام التسامح، فعاليات توقيع الوثيقة التاريخية.
الوثيقة صادرة عن "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية"، الذي نظمه مجلس حكماء المسلمين برعاية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، حيث شهد توقيعها أكثر من 400 من قيادات وممثلي الأديان وشخصيات ثقافية وفكرية من مختلف دول العالم.
مبادئ تأسيسية
وتتوجه الكثير من بنود "صحيفة المدينة" إلى اليهود وإلى تنظيم العلاقة الاجتماعية والإنسانية معهم، كما تتوجه بنود أخرى إلى تنظيم العلاقة بين المسلمين أنفسهم (مهاجرين وأنصار)، في بنود خلت في لغتها وفي توجيهها وتعاليمها تماما من لغة الوعيد والتهديد والإجبار.
واستلهاما من روح صحيفة المدينة، والمبادئ التي تجمع الأديان السماوية وجوهرها التسامحي والتعايشي جاءت وثيقة الأخوة الإنسانية لتؤسس عددا من المبادئ بلغة راقية رقيقة.
ومن أبرز المبادئ التأسيسية التي تضمنتها وثيقة الأخوة الإنسانية إن "الله خلق البشر جميعا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام".
أيضا من هذه الأسس: "النفس البشرية الطاهرة حرم الله إزهاقها، وأخبر أنه من جنى على نفس واحدة فكأنه جنى على البشرية جمعاء، ومن أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا".
وكما وضعت صحيفة المدينة بذرة ما يُسمى اليوم "التضامن الاجتماعي".. حيث جاء في البند الحادي عشر "وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.."، و"المفرح" هو المثقل بالديون، ولكننا إلى جانب هذه القيمة الإنسانية الرّاقية وهي مساعدة الناس وعونهم في سداد ديونهم، نلاحظ أيضاً عبارة "أن يعطوه بالمعروف.."، وكل هذه القيم من غوث ومساعدة وعطاء نجد أصولها موجودة في القرآن الكريم دستور الإسلام الأول.
وقد جاء في المبادئ التأسيسية للوثيقة ما يؤكد أهمية التضامن عبر مبدأ "الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين أمر الله بالإحسان إليهم ومد يد العون للتخفيف عنهم، فرضا على كل إنسان لا سيما كل مقتدر وميسور."
ومن المبادئ التأسيسية الجامعة بالوثيقة أن "الأخوة الإنسانية تجمع البشر جميعا، وتوحدهم وتسوي بينهم، والحرية وهبها الله لكل البشر وفطرهم عليها وميزهم بها، والعدل والرحمة، أساس الملك وجوهر الصلاح."
وينطلق الأزهر الشريف -ومن حوله المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها- والكنيسة الكاثوليكية -ومن حولها الكاثوليك من الشرق والغرب– من تلك المبادئ التأسيسية ليعلنا "تبني ثقافة الحوار دربا، والتعاون المشترك سبيلا، والتعارف المتبادل نهجا وطريقا".
نشر ثقافة التسامح.. من المؤمنين إلى القادة
وكان من أبرز ما تضمنته الوثيقة هي شموليتها في الدولة للتسامح والسلام، فطالبت الجميع بمختلف مواقعهم ووظائفهم، في سعي لنشر أهدافها ومبادئها على أوسع نطاق.
وتطالب الوثيقة المؤمنين بالله وبلقائه وبحسابه وقادة العالم، وصناع السياسات الدولية والاقتصاد العالمي، بالعمل جديا على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فورا لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهده العالم حاليا من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي.
كما تدعو المفكرين والفلاسفة ورجال الدين والفنانين والإعلاميين والمبدعين في كل مكان ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وليؤكدوا أهميتها كطوق نجاة للجميع، وليسعوا في نشر هذه القيم بين الناس في كل مكان.
محاربة التطرف تبدأ من الأسرة
وتبرز الوثيقة أهمية "الأسرة كنواة لا غنى عنها للمجتمع وللبشرية، لإنجاب الأبناء وتربيتهم وتعليمهم وتحصينهم بالأخلاق وبالرعاية الأسرية، فمهاجمة المؤسسة الأسرية والتقليل منها والتشكيك في أهمية دورها هو من أخطر أمراض عصرنا."
وتحذر الوثيقة من حرب عالمية ثالثة على خلفيات موجات الإرهاب والتطرف، لتكون بمثابة "دستور وقائي لدحر الإرهاب والتطرف".
وتقول في هذا الصدد "إن التاريخ يؤكد أن التطرف الديني والقومي والتعصب قد أثمر في العالم، سواء في الغرب أو الشرق، ما يمكن أن نطلق عليه بوادر حرب عالمية ثالثة على أجزاء، بدأت تكشف عن وجهها القبيح في كثير من الأماكن".
وأكدت الوثيقة "أهمية إيقاظ الحس الديني والحاجة لبعثه مجددا في نفوس الأجيال الجديدة عن طريق التربية الصحيحة والتنشئة السليمة والتحلي بالأخلاق والتمسك بالتعاليم الدينية القويمة لمواجهة النزعات الفردية والأنانية والصدامية، والتطرف والتعصب الأعمى بكل أشكاله وصوره".
الأديان بريئة من الحروب والإرهاب
يحسب لتلك الوثيقة التاريخية تشديدها على براءة الأديان من الحروب والتطرف وجاءت الصياغة معبرة عبر استخدام كلمة "وبحزم".
وقال البابا فرنسيس وشيخ الأزهر في الوثيقة "نعلن -وبحزم- أن الأديان لم تكن قط بريدا للحروب أو باعثة لمشاعر الكراهية والعداء والتعصب، أو مثيرة للعنف وإراقة الدماء، فهذه المآسي حصيلة الانحراف عن التعاليم الدينية، ونتيجة استغلال الأديان في السياسة، وكذا تأويلات طائفة من رجالات الدين -في بعض مراحل التاريخ- ممن وظف بعضهم الشعور الديني لدفع الناس للإتيان بما لا علاقة له بصحيح الدين، من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية دنيوية ضيقة".
وطالبا الجميع بـ"وقف استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى، والكف عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش؛ لإيماننا المشترك بأن الله لم يخلق الناس ليقتلوا أو ليتقاتلوا أو يعذبوا أو يضيق عليهم في حياتهم ومعاشهم، وأنه -عز وجل- في غنى عمن يدافع عنه أو يرهب الآخرين باسمه".
حرية العقيدة
مبدأ حرية الاعتقاد تضمنته صحيفة المدينة الصادرة قبل 1400 عام في البند رقم (25) والذي جاء فيه "وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته"، وهذا فيه ضمان للحريات الأساسية للأفراد، وعلى رأسها حرية الاعتقاد، وهو مبدأ يهدم الكثير من الأسس التي تبني عليها الجماعات الإرهابية هجماتها.
وجاءت صياغة هذا المبدأ واضحة في وثيقة الأخوة الإنسانية وعبر أكثر من بند. فتقول الوثيقة "إن الإرهاب البغيض الذي يهدد أمن الناس، سواء في الشرق أو الغرب، وفي الشمال والجنوب، ويلاحقهم بالفزع والرعب وترقب الأسوأ، ليس نتاجا للدين -حتى وإن رفع الإرهابيون لافتاته ولبسوا شاراته".
وتؤكد أن "الحرية حق لكل إنسان: اعتقادا وفكرا وتعبيرا وممارسة، وأن التعددية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية، قد خلق الله البشر عليها، وجعلها أصلا ثابتا تتفرع منه حقوق حرية الاعتقاد، وحرية الاختلاف، وتجريم إكراه الناس على دين بعينه أو ثقافة محددة، أو فرض أسلوب حضاري لا يقبله الآخر".
كما تؤكد أن "حماية دور العبادة، من معابد وكنائس ومساجد، واجب تكفله كل الأديان والقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية، وكل محاولة للتعرض لدور العبادة، واستهدافها بالاعتداء أو التفجير أو التهديم، هي خروج صريح عن تعاليم الأديان، وانتهاك واضح للقوانين الدولية".
الحوار والتسامح
وتشدد الوثيقة مجددا على أهمية الحوار مشيرة إلى أن "الحوار والتفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعايش بين الناس، من شأنه أن يسهم في احتواء كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية التي تحاصر جزءا كبيرا من البشر."
وتبين "أن الحوار بين المؤمنين يعني التلاقي في المساحة الهائلة للقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية المشتركة، واستثمار ذلك في نشر الأخلاق والفضائل العليا التي تدعو إليها الأديان، وتجنب الجدل العقيم".
وفي مفهوم الحوار الجامع للبشرية تؤكد الوثيقة أن "العلاقة بين الشرق والغرب هي ضرورة قصوى لكليهما، لا يمكن الاستعاضة عنها أو تجاهلها، ليغتني كلاهما من الحضارة الأخرى عبر التبادل وحوار الثقافات".
المسؤولية.. والضمير الإنساني
وفي ختام "صحيفة المدينة"، أسست الوثيقة النبوية لمفهوم المسؤولية والحرية فكل مسؤول عن عمله، فرداً وجماعة، لا يؤاخذ واحد بوزر واحد، ولا أمة بوزر أمة، وهذا ما عنته "الوثيقة" في الفقرة قبل الأخيرة من البند رقم (46) التي نصت على أنه "لا يكسب كاسب إلا على نفسه".
ومن منطلق تلك المسؤولية جاء ختام وثيقة "الأخوة الإنسانية" بمخاطبة الضمير الإنساني ودعوة للمصالحة والتآخي بين جميع المؤمنين بالأديان، بل بين المؤمنين وغير المؤمنين، وكل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة.
وجاء في وثيقة الأخوة الدعوة للجميع لتنبينها من منطلق المسؤولية، حيث تقول: "لتكن وثيقتنا نداء لكل ضمير حي ينبذ العنف البغيض والتطرف الأعمى، ولكل محب لمبادئ التسامح والإخاء التي تدعو لها الأديان وتشجع عليها؛ لتكن وثيقتنا شهادة لعظمة الإيمان بالله الذي يوحد القلوب المتفرقة ويسمو بالإنسان لتكن رمزا للعناق بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وبين كل من يؤمن بأن الله خلقنا لنتعارف ونتعاون ونتعايش كإخوة متحابين".
تطبيق وتبني تلك البنود والمبادئ المنيرة والمستنيرة التي احتوتها وثيقة الأخوة الإنسانية، والتي تستلهم روحها من النهج النبوي ومن أول دستور للتسامح أصدر بنوده نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المبادئ السامية في الأديان السماوية، والتي توافق عليها قطبان دينيان ورمزان كبيران، وتم توقيعه في عاصمة التسامح أبوظبي، وبدعم ورعاية من قيادتها، كفيل بتحقيق عالم يسوده التسامح والعدل والسلام.