لماذا لن تختفي نظريات «المؤامرة» حول «CIA»؟
مع اقتراب انتخابات الرئاسة الأمريكية ووسط احتمالية عودة دونالد ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض رئيسًا، باتت وكالة الاستخبارات الأمريكية تشعر بقلق عميق.
قلق لم يكن يتعلق بالحديث الأخير بين مستشاري ترامب عن منح روبرت ف. كينيدي الابن، صاحب «نظريات المؤامرة المزعجة»، دورا «رقابيا» على الوكالة فحسب، بل يعود -كذلك- إلى تعهد الرئيس السابق بتدمير ما يسميه هو وأنصاره «الدولة العميقة»، وهي عبارة عن مسؤولين غير منتخبين ــ إلى حد كبير في أجهزة الاستخبارات ــ يريدون إبعاده عن البيت الأبيض، على حد تعبير ترامب.
وتقول صحيفة «فورين بوليسي»، إن «الدولة العميقة» ليست نظرية المؤامرة الوحيدة التي تعود جذورها إلى وكالة المخابرات المركزية، فقد زعم آخرون أن الوكالة ــ وهي وحدة استخبارات أجنبية محظورة صراحة على العمليات المحلية ــ وجهت سلطاتها السرية ضد الحركة المناهضة لحرب فيتنام في الولايات المتحدة، بل اغتالت جون لينون؛ وأنها أجرت تجارب «التحكم في العقول» التي أسفرت عن عمليات قتل أخرى على الأراضي الأمريكية، بما في ذلك مقتل والد روبرت كينيدي الابن وتلك التي نفذتها عائلة تشارلز مانسون؛ وأنها خلال ثمانينيات القرن العشرين قامت بتهريب الكوكايين في المدن الداخلية الأمريكية بهدف إبادة المجتمعات السوداء.
فلماذا لن تختفي نظريات المؤامرة من أمريكا؟
إن أحد الأسباب وراء ذلك هو أن الولايات المتحدة كانت دوماً عُرضة لنظريات المؤامرة ــ وهو ما أطلق عليه المؤرخ ريتشارد هوفستاتر «الأسلوب البارانويدي في السياسة الأمريكية».
ففي الماضي، كان الأمريكيون يعتقدون أن الجماعات الخارجية هي التي تقوض الجمهورية: الكاثوليك، والمورمون، واليهود، والشيوعيين. لكن في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، عندما تم إنشاء جزء كبير من مؤسسة الأمن القومي الحديثة ــ على سبيل المثال، تأسست وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في عام 1947 ــ بدأت نظريات المؤامرة تركز على أقسام سرية في الحكومة ذاتها.
هذا الدافع المحلي تفاقم بسبب النفوذ الأجنبي؛ ففي ستينيات القرن العشرين، روج جهاز المخابرات السوفياتي (كي جي بي) قصصًا عن اغتيال جون كينيدي في الصحافة الأوروبية، ثم شقت طريقها إلى الولايات المتحدة.
ولم يكن المتظاهرون من أجل السلام بحاجة إلى الكثير من التشجيع لتصديق المعلومات المضللة، لأنهم كانوا يستمعون بالفعل إلى ما يسمى بزعماء العالم الثالث ــ مثل فيدل كاسترو الكوبي ــ الذين زعموا (بدقة) أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تتآمر ضدهم.
وبهذا المعنى، كانت نظريات المؤامرة بعد الحرب العالمية الثانية بمثابة تأثير مرتد للتدخل الأمريكي في الخارج. وفي الآونة الأخيرة، أثناء رئاسة ترامب، أطلق عملاء روس حملات لنشر نظرية الدولة العميقة على الإنترنت.
ليس هذا فحسب، بل إن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نفسها تتحمل اللوم، فمن ناحية، كان ميل الوكالة التاريخي إلى الإفراط في سرية سجلاتها وإحجامها عن الامتثال لقوانين حرية المعلومات سبباً في تشجيع المواطنين الأمريكيين على تصور أنها تحمي أسراراً أعظم مما تحميه في الواقع، بحسب الصحيفة الأمريكية.
ومن ناحية أخرى، انخرطت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في أنشطة «غير أخلاقية وغير قانونية» داخل الولايات المتحدة، ففي خمسينيات القرن العشرين، رعت الوكالة في إطار عملية أطلق عليها اسم «إم كي ألترا»، أبحاثاً حول أساليب الاستجواب باستخدام العقاقير النفسية وأساليب السلوك المؤلمة التي تنطوي على أشخاص غير مدركين.
وفي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، تجسست وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على المتظاهرين من أجل السلام والناشطين السود في الولايات المتحدة في برنامج أطلق عليه اسم MHCHAOS، بناء على تعليمات من الرئيسين ليندون جونسون وريتشارد نيكسون، اللذين اشتبها في وجود يد أجنبية في حركة مناهضة الحرب في تلك الحقبة.
وخلال الثمانينيات، عملت الوكالة مع مهربي المخدرات المناهضين للشيوعية الذين ساعدوا في إمداد متمردي الكونترا الذين قاتلوا للإطاحة بحكومة الساندينيستا في نيكاراغوا، بينما كانوا يتاجرون بالكوكايين في مدن أمريكية مثل لوس أنجلوس.
وعندما حاول الصحافيون أو المبلغون عن المخالفات فضح مثل هذه الأنشطة، رفضتهم وسائل الإعلام المؤيدة لوكالة الاستخبارات المركزية باعتبارهم إما عملاء أجانب أو من أصحاب نظريات المؤامرة «المرضية».
وخلال ثمانينيات القرن العشرين، سخرت صحيفة «واشنطن تايمز» المحافظة من التحقيقات في قضية الكونترا، وانضمت إلى العديد من الصحف الأخرى في مهاجمة جاري ويب، مراسل منطقة خليج سان فرانسيسكو الذي كشف عن علاقات وكالة الاستخبارات المركزية بمهربي المخدرات المرتبطين بالكونترا.
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإنه ما دامت وكالة الاستخبارات المركزية تنفذ عمليات سرية تؤثر على المجال الداخلي الأمريكي وتخفي أنشطتها في طبقات لا يمكن اختراقها من السرية الرسمية، فإن الجمهور الأمريكي سوف يشك في الأسوأ.
هل حاولت «CIA» تحسين صورتها؟
حاولت وكالة المخابرات المركزية إصلاح صورتها بشكل كبير، فخلال ستينيات القرن الماضي، عملت خلف الكواليس لمكافحة الشكوك حول استنتاج لجنة وارن بأن لي هارفي أوزوالد كان المسلح الوحيد في اغتيال جون كينيدي.
وفي أعقاب تسريب «مجوهرات العائلة» عام 1974 والتحقيقات رفيعة المستوى التي أجراها الكونغرس والتي أعقبت ذلك في عام 1975، أطلقت وكالة المخابرات المركزية جهودًا لإصلاح صورتها بقيادة ضابط المخابرات المتقاعد الوسيم ديفيد أتلي فيليبس.
ومنذ التسعينيات، تواصلت بشكل روتيني مع هوليوود لإنتاج أعمال فنية تظهرها في صورة جيدة، مثل تصوير فيلم عام 2012 لمطاردتها لأسامة بن لادن.
وفي عام 2022، أطلقت وكالة المخابرات المركزية بودكاست، The Langley Files ، يصور مقرها كمكان للاحتراف الهادئ والتنوع واليقظة. وتضمنت إحدى الحلقات مقابلة مع كبير مسؤولي الرعاية الاجتماعية في الوكالة.
فهل كانت تلك الجهود مجدية؟
لكن من غير الواضح إلى أي مدى عادت هذه الحملات الإعلامية بالفائدة على وكالة الاستخبارات المركزية، فقد اجتذبت ملفات لانغلي اتهامات من المحافظين بـ«اليقظة»، كما أضافت الكشوفات حول تورط الوكالة في إنتاج فيلم «صفر بعد منتصف الليل» إلى الدعاية السلبية المحيطة باستخدامها «لأساليب استجواب معززة» مع المشتبه بهم في الإرهاب مثل التعذيب بالماء.
كما أدت الشهرة العامة التي اكتسبها فيليبس في أواخر سبعينيات القرن العشرين إلى تحوله إلى المشتبه به الرئيسي في نظريات المؤامرة التي تلاحق جون كينيدي، وهي التجربة التي شبهها في سره بمحنة شخصية في رواية لفرانز كافكا.
فهل هناك مخرج؟
بحسب «فورين بوليسي»، فإنه يتعين على وكالة الاستخبارات المركزية أن تبذل جهوداً أكبر للامتثال لقوانين حرية المعلومات التي تحكم رفع السرية عن المعلومات، والمساعدة في تبديد حالة الجهل العام التي تزدهر فيها نظريات المؤامرة.
وأكدت أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تعمل على تحسين تبادل المعلومات مع وكالات حكومية أخرى وتثبيط تسريب البيانات من قِبَل الموظفين الساخطين.
وشددت على أنه يجب على وكالة المخابرات المركزية تجنب الاضطلاع بالعمليات السرية المشكوك فيها التي ساعدت في إثارة نظريات المؤامرة في المقام الأول، والتركيز بدلاً من ذلك على مهمتها الأصلية: تحليل الاستخبارات.
وقالت الصحيفة الأمريكية، إن هناك علامات مشجعة على أن الوكالة تعيد تركيزها بالفعل، ففي عام 2021، على سبيل المثال، أنشأت مركزين جديدين للمهام، أحدهما مخصص للصين والآخر للتكنولوجيات الناشئة والمناخ والصحة العالمية.
علاوة على ذلك، فإن التنبؤ الصحيح للوكالة بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عام 2022، والذي رفعت إدارة جو بايدن السرية عنه، عزز الثقة العامة في قدراتها الاستخباراتية.
لكنّ مثل هذه الخطوات غير كافية لمنع انتشار المزيد من نظريات المؤامرة على غرار الدولة العميقة، تقول الصحيفة الأمريكية، مشيرة إلى أنه رغم أن تبديد الشكوك حول وكالة الاستخبارات المركزية (ووكالات الاستخبارات السبعة عشر الأخرى) في مجتمع يشكك تاريخيا في القوى السرية مهمة مستحيلة، إلا أنه لابد من بذل المحاولة، لأن بقاءها حال عودة ترامب ثانية، قد يعتمد على ذلك.