المدينة الفاضلة "صديقة للمناخ".. حقيقة أم خيال؟
يعكف "مهندسو المناخ" والعلماء للدفع باتجاه بناء مدن المستقبل الخضراء والأبراج السكنية المغطاة بالنباتات وتطوير نظم إعادة تدوير المياه والالتزام بـ"التقنيات الذكية"، لتشكيل "مدن خضراء مستقبلية" تصبح نموذجا للاستدامة.
ولا ترتبط الأفكار والتقنيات فقط بالطاقة وخفض الانبعاثات ومواجهة الاحتباس الحراري والاستغناء عن الوقود الأحفوري وتبريد الأرض والعمل على أجندة باريس للمناخ، ولكن أيضا عبر التكيف وتطويع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في تصميم وبناء المدن الخضراء.
كما يمكن للعديد من التقنيات الجديدة اليوم إنتاج جميع أنواع المواد الزراعية بأقل قدر من الأضرار للأرض واستهلاك أقل للموارد، وأن تستوعب النمو السكاني العالمي الهائل بمدن صديقة للمناخ بشرط أن تكون صالحة لكل البشر وليس لطبقة بعينها.
أسس بناء مدن المستقبل
يحتاج العالم خلال العقود القادمة وبشكل عاجل إلى خفض الانبعاثات، وعلى ذلك فالمدن البيئية عالية التقنية مثل "فورست سيتي" و"ذا لاين" لم تعد مجرد رفاهية.
وإذا كانت مدن المستقبل الخضراء واحة نجاة بالنسبة للمطورين والمستثمرين ويستخدمها ساسة لتسويق برامجهم السياسية والانتخابية فإنها يجب ألا تكون قضية "إلهاء" عن باقي الحلول والعلاجات التي يحتاجها العالم والتي يجب أن تلتزم بها الدول فيما يتعلق بالطاقة الخضراء والاستدامة ومعايير اتفاقية باريس للمناخ 2015 والهدف العالمي لخفض درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية.
لكن، عندما يتم تسليم مشاريع المدن العملاقة، يقول علماء المدن إنهم نادرًا ما يوفرون نوع السكن الذي يحتاجه معظم الناس في أي بلد.
وتتوقع الشركات والبلدان التي تستثمر الملايين في هذه المشاريع العملاقة عوائد كبيرة، مما يعني أن بناء منازل ميسورة التكلفة نادرًا ما يكون هو الأولوية.
في زيمبابوي، على سبيل المثال، أُطلق على عاصمة جديدة يجري بناؤها لتحل محل هراري، بتمويل من ملياردير وشركات صينية، لقب "مدينة الأغنياء" لمنازلها التي تكلف مئات أضعاف الدخل السنوي للفرد.
التخطيط للنمو السكاني
اعتبر مبعوث الولايات المتحدة الخاص للمناخ جون كيري أن النمو السكاني العالمي ليس مستداما مع توقع بلوغ عدد البشر عشرة مليارات عام 2050.
ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني، تجاوز عدد سكان الأرض رسميا 8 مليارات، أي أكثر من 3 أضعاف عدده في عام 1950.
وفيما تهدد احتياجات الغذاء والطاقة موارد الكوكب ومناخه، ينتظر أن يقترب العدد من عشرة مليارات نسمة (9,7 مليار) في منتصف القرن، وفق توقعات الأمم المتحدة.
وقال جون كيري في مقابلة سابقة مع وكالة فرانس برس، "أنا شخصيا لا أعتقد أن ذلك مستدام... علينا معرفة كيفية التعامل مع قضية الاستدامة وعدد الأشخاص الذين يتعين علينا الاعتناء بهم على الكوكب".
وليس هناك شك في أن الكثير من العالم يحتاج إلى مناطق حضرية جديدة.
ومن المقرر أن يتضاعف عدد سكان إفريقيا على الأقل بحلول عام 2050، ومن المتوقع أن يعيش ثلثا السكان الجدد في المدن. إذ سيزداد عدد سكان الشرق الأوسط بأكثر من الثلث خلال نفس الفترة، حيث أصبحت سبع دول حضرية بنسبة 90٪.
ولإيواء جميع سكان المدن الجدد، أثناء القتال والتكيف مع ظاهرة الاحتباس الحراري، يقول العلماء إننا بحاجة ماسة إلى إيجاد طرق أكثر اخضرارًا للبناء.
وفي بعض الحالات، تتعرض المدن القائمة للتهديد من جراء الأزمات البيئية المتزايدة، مما يخلق الحاجة إلى استبدالها. وإندونيسيا خير مثال على ذلك.
غالبية حالات بناء مدن المستقبل تتم قبالة السواحل أو في الصحاري وهو ما يتطلب الحصول على كميات هائلة من الرمال، والتي غالبًا ما يتم جرفها من البيئات البحرية الحساسة بسبب النقص العالمي أو مأخوذة من السواحل التي تعتمد عليها المجتمعات.
والمروج الخضراء التي يعد بها المسوقون غالبا تعتمد على محطات تحلية المياه - وهي طريقة كثيفة الطاقة لإزالة الملح من مياه البحر التي تعتمد في معظم الأماكن على الوقود الأحفوري، مما يعني أننا بحاجة لتخطيط بيئي وليس استثماريا للنمو السكاني العالمي.
نموذج جوهور الماليزية
"قطعة صغيرة من الجنة البيئية على الأرض يمكن أن تكون لك"، هكذا يتم التسويق لمدينة فورست سيتي، وهي مدينة جديدة تم الانتهاء منها جزئيًا على ساحل ولاية جوهور الماليزية، حسب المطور الصيني للمشروع.
وقد فاز المشروع بالعديد من الجوائز للتصميم الحضري المستدام، بما في ذلك جائزة مدعومة من برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة.
وحسب تقرير نشرته مجلة "تايم" الأمريكية فإن مضيق جوهور، هو قطاع بحري غني بالحياة البرية يفصل ماليزيا عن سنغافورة. الجزر الصناعية الأربع التي ستشكل المشروع، والتي تهدف إلى استيعاب 700000 شخص بحلول عام 2035.
لكن الواقع أكثر تعقيدًا، حيث يقول نشطاء حماية البيئة إن المدينة التي تبيع نفسها كمنقذ للكواكب هي في الواقع تهديد كبير للطبيعة في مضيق جوهور، فالمدينة هي جزء من موجة من مشاريع استصلاح الأراضي التي شهدت إلقاء ملايين الأطنان من الرمال في مياه المضيق في السنوات الأخيرة.
ويقول الصيادون المحليون، حسب تقرير "تايم" إن النشاط تسبب في هجرة أنواع الأسماك وألحق أضرارًا بغابات المنغروف التي تمتص عادة كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون الذي يتسبب في ارتفاع درجة حرارة الكوكب من الغلاف الجوي، وتحمي الساحل.
وتقول سيرينا رحمان، المحاضرة في قسم دراسات جنوب شرق آسيا في جامعة سنغافورة الوطنية، والتي تابعت المشروع، إن الصورة الملائمة للكتيبات الخاصة بالاستدامة التي حاول المطورون لصقها فوق تلك النباتات والحيوانات المفقودة لم تكن مناسبة لمناخ ماليزيا.
ويقول "عبدالرحمن" أحد السكان المحللين في جزيرة فورست سيتي "زرع المطورون في البداية أشجار النخيل والصبار.. لا تستطيع هذه النباتات البقاء هنا، لأن لدينا مطرا.. كان هناك نقص كبير في المعرفة التي أدت إلى ما كانوا يفعلونه".
لكنه أكد أن المشروع عمل على تحسين علاقته بالطبيعة والمجتمعات المحلية منذ إنشائه.
وتصف سارة موسر الأستاذة المشاركة في قسم الجغرافيا بجامعة ماكجيل ومديرة مختبر المدن الجديدة، ما يحدث في جوهرر الماليزية بـ"غسيل أخضر".
لكن الشركة مطور ة"فورست "سيتي" ردت على الانتقادات البيئية للمشروع بالقول: إنها "لم تهمل أبدًا المناظر الطبيعية وحماية البيئة، وتمتثل لجميع القوانين البيئية في ماليزيا".
وعلى ذلك فإن أوراق الاعتماد الخضراء للتطوير التي نوقشت في هذا المشروع هي تحذير لعشرات من مشاريع المدن الجديدة الأخرى التي تقدم نفسها على أنها شديدة الاستدامة.
أين وصل العالم؟
ما لا يقل عن ربع المدن الجديدة البالغ عددها 170 مدينة التي تم الإعلان عنها منذ أواخر التسعينيات - معظمها في الجنوب العالمي – تسوق نفسها تحت مصطلح "المدينة البيئية"، فهل رعت فعلا الأبعاد البيئية والمستقبل الأخضر؟
ووفقًا للباحثة موسر فإنه يمكن العثور على أمثلة كثيرة حول العالم شمالا وجنوبا من المكسيك إلى ساحل العاج، فضلا عن اقتراح مدينة "Telosa" للملياردير مارك لور لغرب الولايات المتحدة، و"Akon City" في السنغال.
تلك المدن تصدرت جميعها عناوين الصحف لحلولها المناخية عالية التقنية المقترحة مثل السيارات الكهربائية بدون سائق، أو جدار معكوس تم بناؤه ليعكس الحرارة.
وبين المدافعين عن تلك المدن باعتبارها إحدى السبل الحتمية للعيش في المستقبل في مواجهة كابوس التغير المناخي، وحماة البيئة المنتقدين لغالبية تلك المشاريع باعتبارها تسويقا للوهم واستثمار في الخوف من التغير المناخي وليس التكيف بأساليب عصرية مع تلك التغيرات تظل تجربة "مدن المستقبل الخضراء" مشاريع قائمة وتزداد توسعا.
فرجال الأعمال والسياسيون الذين يقفون وراء هذه المشاريع يقولون إنهم سيقودوننا إلى عالم أكثر خضرة، ولن يقتصر الأمر على إيواء الملايين من الأشخاص الذين يحتاجون إلى منازل في العقود القادمة بأكثر الطرق الصديقة للبيئة الممكنة، بل سيعملون أيضًا كمختبرات للابتكارات البيئية التي لا تستطيع المدن الحالية تقديمها.
aXA6IDUyLjE0Ljc3LjEzNCA=
جزيرة ام اند امز