أكثر شيء لفتاً للانتباه في التوظيفات الانتخابية بإثارة قضية «الهوية الوطنية» لتمكين أحزاب اليمين من الحصول على أصوات اليمين.
علّ أكثر شيء لفتاً للانتباه في التوظيفات الانتخابية بإثارة قضية «الهوية الوطنية» لتمكين أحزاب اليمين من الحصول على أصوات اليمين المتطرف في فرنسا وسويسرا والنمسا، ونقاشات أخرى قادمة في الطريق، هو أن انحرافاتها ودلالاتها كشفت المسكوت عنه في أسباب اندلاعها من جهة، وهي أسباب ثقافية قبل أن تكون سياسية أو حزبية، وتكشف أيضاً، من جهة أخرى، خطورة اختزال الحديث عن الإسلام والمسلمين باعتبارهم مجرد غرباء وافدين. إضافة إلى أن هذه المعارك الإعلامية تسببت في التشكيك في وطنية الأوروبيين المسلمين وسعيهم نحو الاندماج، وإرادتهم في العيش المشترك مع بقية المواطنين.
إن هذا الاختزال الأوروبي لواقع الإسلام والمسلمين يجعل الأقلية الإسلامية تفكر فقط في تأكيد هويتها المهددة، وذلك على رغم أن الهوية في أبعادها الثابتة ليست مشكلًا، ما دامت عوامل الاندماج والاشتراك صارت كذلك ثابتاً بفعل التراكم التاريخي. ولكن المشكل هي الفاعلية والحرية المجتمعية والسياسية التي تتيح للجميع التعبير عن هويته، وهي المشاركة والحرية المجتمعية التي تصبح مهددة بشكل غير مباشر من خلال هذه المعارك السياسية والإعلامية التي عرفتها العديد من الدول الأوروبية خلال السنين الأخيرة.
إذا كان تنميط أنواع معينة من القيم والأفكار والسلوكيات يميز منظومة العولمة، كما هو قائم في الواقع مع مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية مثلاً، حتى أصبحت هذه المطاعم، أحد رموز العولمة، فإنه يجب أن نتوقع ظهور صراعات في العديد من دول العالم عندما تصطدم هذه القيم والأفكار مع هويات ودساتير هذه الدول، بما فيها قيم وأفكار وسلوكيات المهاجرين العابرين أو المقيمين أو المتجنسين، وهذا واقع يهم على الخصوص الأقليات الإسلامية المقيمة في القارة الأوروبية.
الاختزال الأوروبي لواقع الإسلام والمسلمين يجعل الأقلية الإسلامية تفكر فقط في تأكيد هويتها المهددة، وذلك على رغم أن الهوية في أبعادها الثابتة ليست مشكلًا، ما دامت عوامل الاندماج والاشتراك صارت كذلك ثابتاً بفعل التراكم التاريخي
وفي ظل هذه الظروف والتحديات الكبيرة، يبرز مفهوم المواطنة، كمخرج عملي أمام الجميع، من أجل مسايرة الضغوط والتطورات التي تفرضها قيم العولمة والتشابكات الحاصلة بين قيم مواطني الدولة الأصلية وقيم المهاجرين، إلى درجة حديث بعض الباحثين عن مخرج عملي عالمي لا يعدو أن يكون «مواطنة عالمية»، بما يؤكد أن المواطنة لم توضع يوماً على المحك إلا حين برزت العولمة واتسع فضاؤها وتقوّت أدوات الاشتغال لدى فاعليها. ولو أن ظاهرة العولمة لم تستهدف المواطنة في حد ذاتها، من خلال استهداف مبادئها الكبرى، بل أساساً عبر استهداف المؤسسات والقيم التي انبنت عليها المواطنة إياها لسنين طويلة، لما كانت مبادئ المواطنة «العالمية» هي، في الشكل كما في الجوهر، امتدادا لأشكال المواطنة «المحلية»، فإن ما طال هذه الأخيرة ما فتئ، بحكم منطق الأشياء، يطال الأولى، ويؤثر فيها ويطبع تجلياتها، وخاصة أن النظام العولمي يتجه حالياً إلى الشروع في عملية تشبيك للدول في العالم بأسره بما يحول دون اشتغال أية دولة خارج الشبكة الكوكبية بضغوطها وإكراهاتها الاقتصادية بالأساس والسياسية والثقافية والاجتماعية بالتبعية. ولا خلاف على أن المتحكم الحقيقي في اشتغال هذه الشبكة هو رأس المال العالمي الذي يقع اليوم تحت الوصاية المطلقة للشركات العملاقة الأمريكية، حتى أصبحت دولة الفضاء الوطني أقرب إلى خرافة، وهناك حاجة ماسة اليوم إلى تقنيات نظرية وسياسية تمكننا من تدبير الهوية والوطنية بمصطلحات مستقلة: إنها مسألة أساسية، وعلى السياسات الوطنية الأوروبية أن تشجع تعدد الهويات بدلاً من تشجيع المواطنة الواحدة، كما رأينا مع الأزمات في فرنسا وسويسرا على الخصوص، خلال السنتين الماضيتين، وكما رأينا ذلك أيضاً في العديد من الدول الأوروبية الأخرى خلال السنين الأخيرة.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة