تعيش القارة الأوروبية مجموعة من الأزمات السياسية والاقتصادية منها تلك المتعلقة بأوضاع الأقلية المسلمة في القارة العجوز
بخلاف أغلب المقاربات التي يمكن أن تميز تعاطي المفكرين والباحثين مع مواضيع العولمة والهوية والمواطنة، قررنا أن نتعاطى مع هذه المفاهيم من خلال أمثلة ميدانية، وذلك على اعتبار أنه يصعب أن نجد خلافات جوهرية بين مختلف التعريفات التي يحررها الكُتاب العرب في الموضوع، ولكن الإشكال لا يكمن في التعريفات، وإنما في الوقائع والنوازل الفقهية والميدانية التي تواجهها الأقليات الإسلامية في الغرب، وخاصة الأقلية الإسلامية في القارة الأوروبية، ولا يعني ذلك أننا لن نتوقف بتاتاً عند التعريفات، ولكنها ستحظى بأهمية أدنى إذا قارناها مع الأمثلة الواقعية.
تعيش القارة الأوروبية مجموعة من الأزمات السياسية والاقتصادية منها تلك المتعلقة بأوضاع الأقلية المسلمة في القارة العجوز، وقد تطورت إحدى أهم هذه الأزمات، إلى درجة أنها أصبحت قضية حوار وطني، مند إطلاق الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، في 25 أكتوبر 2009 مبادرة تروم فتح نقاش مجتمعي من أجل التوصل إلى أجوبة قيل إنها يجب أن تكون جماعية حول السؤال التالي: «ما معنى أن تكون فرنسياً؟».
وقد تسبب ذلك النقاش من يومها وإلى الآن في كثير من الجدل المحتدم بسبب ما اعتبره البعض التفافاً على قضايا الهجرة والمسلمين، خاصة مع الانقسامات والاختلافات بشأن ما يطرحه الوجود الإسلامي في البلاد من إشكالات على المستوى الاجتماعي والثقافي. كما ساهم النقاش أيضاً في استحضار قضايا أخرى تؤكد كثرة التحديات المرتبطة بالهوية في المنطقة الأوروبية، ونخص بالذكر، دروس إصدار قانون يمنع إبراز المظاهر الدينية في المدارس والمعاهد الفرنسية في عام 2004.
ونرى أن التصريحات التي أدلى بها بعض السياسيين، عندما اعتبر أن النقاش «لا يتمحور حول الهجرة والإسلام» ولا يشكل «متنفسا للعنصرية»، يأتي دليلًا مادياً على ثقل الواقع مقارنة مع الخطاب النظري الخاص بمواضيع الهوية والمواطنة، حيث تبين أن المسألة تحولت من الإجابة عن سؤال مركزي هو «من هو الفرنسي؟» إلى المطالبة بـ«اندماج المسلمين في فرنسا» و«احترام القيم المسيحية للبلاد»، وهو ما اعتبره البعض كشفاً عن الوجه الحقيقي لغاية الحوار، كما شكل أيضاً تحولاً ينبئ بعدم براءة السؤال المطروح منذ البداية والنتائج الخطيرة التي يمكن أن يؤدي إليها.
وتأكدت هذه المخاوف عندما أظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة «سي. إس. إيه» لاستطلاعات الرأي لصالح صحيفة «لوباريزيان»، أن 54 % فقط من الفرنسيين يرون أن الإسلام لا يشكل أي تهديد لقيمهم. غير أنه كشف أيضاً عن تباين واضح بين الأجيال إذ ينفتح عدد أكبر من الشبان الفرنسيين على الإسلام أكثر ممن هم أكبر سناً، ومن بين من تقل أعمارهم عن 30 عاماً قال 68 % إن الإسلام يتلاءم مع المجتمع الفرنسي، وهي نسبة تقلصت مع تقدم المراحل العمرية إذ بلغت 36 % فحسب عند من تتجاوز أعمارهم الـ75. كما اتهم منتقدون أيضاً ساركوزي بأنه يغازل العنصريين ومروجي الخوف بهذه المناقشة التي تجري في قاعات مجالس بلدية ومنتديات تدعمها الحكومة على شبكة الإنترنت.
وجاء في أحد مواقع النقاش على الإنترنت أنه «على رغم علمانية الدولة الفرنسية فليس بوسعنا محو ألف عام من المسيحية... وأعتقد أنه ينبغي لنا تشديد سياستنا المتعلقة بالهجرة والإدماج». وهكذا يتبين للباحث أن تحديات سؤال الهوية المرتبطة مثلاً بوجود الأقلية الإسلامية في فرنسا (أو الأقلية الإسلامية في سويسرا مع قضية الاستفتاء على بناء المآذن، وغيرها من الحالات)، لم تعد قضية نظرية، نطرح فيها الحلول والمقترحات، وإنما أصبحت قضية توظيف سياسي حكومي في العديد من الدول الأوروبية، كما بدا في الحالتين الفرنسية والسويسرية، وأيضاً في الحالة الهولندية، حيث يسعى قيادي يميني متشدد إلى قيادة حملة أوروبية ضد الوجود الإسلامي.
إن المشكل الأكبر مع هذه التوظيفات هو أنها تصرف نظر الباحثين عن التفكير بعمق في التحديات الخطيرة التي تفرضها هذه التطورات، كما أنها من جهة ثانية تورط ممثلي الأقليات الإسلامية في حملات من ردود الأفعال الإعلامية والمدنية، وتعيق التعاطي بعمق مع الأسئلة المسكوت عنها في هذه التوظيفات، والتي ظهر بعضها بشكل واضح في النقاش الفرنسي حول الهوية الوطنية.
* نقلا عن صحيفة "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة