يثير سيناريو الطلاق المتوقع بين إنجلترا والاتحاد الأوروبي الكثير من التساؤلات، ليس حول الطرفين بل حول العالم أجمع، لأننا نعيش في عالم واحد بحاجة إلى الاستقرار الأمني والسياسي.
منها: هل تسمح بريطانيا بوصول صيادي الأسماك الأوروبيين إلى المياه البريطانية، وهل يضمن الاتحاد الأوروبي روح المنافسة والوصول الحر إلى أسواقه؟ وأخيرا: هل ستتم تسوية الخلافات في اتفاق مستقبلي؟
مما لا شك فيه أن لندن وبروكسل ستتكبدان خسائر اقتصادية كبيرة، لأن اتفاقية التجارة والأمن بينهما تعرضت للزعزعة والاضطراب، ما يجعل الباب مفتوحا أمام حرب باردة لا يعلم أحدٌ متى ستنتهي.
وربما يجعل إنجلترا تدور في عزلة خانقة مثلما حصل لها في القرن التاسع عشر، عندما وجدت نفسها في عزلة كبيرة. فالتاريخ يكرر نفسه.
يشهد عصرنا حروبا من نوع آخر، ليس بالضرورة من خلال ترسانات الأسلحة. تقوم الحروب الخفية لأسباب خفية أيضا. ولا توجد قدرة سحرية ما ستحمي أي بلد من أنواع الحروب، حتى في آسيا البعيدة، حيث كانت الحرب على وشك النشوب بين الكوريتين. وفي هذا السياق، يتسابق العالم للصراع من خلال القوة الاقتصادية والتكنولوجيا، فيمن يسيطر عليهما يسيطر على العالم. وفي الوقت ذاته، يصارع العالم من أجل تشريع مبادئ السلام والقانون في ظل سرعة أدوات الاتصال وابتكاراتها التكنولوجية.
نواجه الآن أشكالا جديدة من الحرب والإرهاب والعنف، ما يؤثر سلبا على العقول المبدعة، وتنشأ عنها خطورة استخدام العقول الجبارة لصناعة هذه الحروب. في جعبة كل دولة خطط لإنتاج الأسلحة الخفيّة، ترافقها الدبلوماسية والقوة الناعمة لكي تتغلب على جعجعة السلاح. استطاع الإرهاب أن يسيطر على شاشات التلفزيون، حتى اعتاد أطفالنا على ذلك، ولم يدخروا وسعا في اقتناء بعض هذه الأسلحة المصنوعة من البلاستيك الصيني. واعتادت المذيعة أن تقرأ لنا أخبار تفجير في مكان ما وقتل مئات الأشخاص، وهم لا يعنون شيئا لنا، بل عبارة عن أرقام لبشر لا حياة لهم ولا سيرة ذاتية في نظر المشاهدين، إنهم مجرد أشباح ماتوا وانتهى الأمر.
هل نحن نعيش في قرن شرس، ووقح، وعبثي؟
لم يعد أحد يعبأ بالذاكرة، وويلات الحربين العالميتين، وما سببّا من دمار في الأرواح والنفوس، بحيث بتنا نعيش في غرف إنعاش وحالات طوارئ قصوى، ما يذكر بمقولة المفكر الفرنسي ريمون آرون "حرب غير محتملة، سلام غير ممكن"! أي حالة اللا استقرار.
هناك حروب غير محتملة، لكنها وقعت وأصبحت واقعا ملموسا في عالمنا، فالأعمال الوحشية والعنيفة التي تعرّضت لها المجتمعات الروسية والصينية والكمبودية والعراقية وغيرها، لم تتخلص من عواقبها الوخيمة حتى الآن، ولا يزال الروائيون يؤلفون الروايات والسرديات عنها حتى وقتنا الحاضر، ولا تزال أشباح المفقودين تدق الأبواب، والعالم يعيش في تيه بدون بوصلة ترشده إلى بّر الأمان.
أصعب ما تعيشه المجتمعات المعاصرة حاليا هو فقدان الأمل برؤية المستقبل لأن البشرية تشعر بالخواء الروحي، وهنا نتذكر ما قاله الروائي ماكسيم غوركي" إن حاجتنا إلى النفوس البشرية أكبر من حاجتنا إلى الآلات والدبابات والطائرات". لذلك تعيش المجتمعات الأوروبية والغربية صراعا فكريا وأخلاقيا أكثر من الصراع العسكري والقانوني، لأن الغرب اقترف من الجرائم والويلات ما يجعله يغوض في عالم من الخواء الروحي وتأنيب الضمير والاحساس بالذنب.
لا يزال الإنسان بحاجة إلى حوار مع التاريخ، لأن العلاقة بينهما فقدت توازنها منذ أن مزّق الإنسان نسيج هذه العلاقة، وحرّف مجراه الطبيعي. التاريخ يكرر نفسه وعلى العالم أن يتعّظ بتجاربه السابقة.
أين تكمن المفارقة بين إنجلترا وأوروبا وبينهما العالم الثالث؟
لا يمكن أن نغفل علاقة إنجلترا والاتحاد الأوروبي وندعي بأن الأمر لا يهمنا. لا يكمن الموضوع في الاتفاقيات الاقتصادية بل في البنية الفكرية للصراع الذي تقوده هذه البلدان وإبعاد النخبة من أجل استفرادها في صناعة التاريخ. والأجيال تتوارث الكوارث. على سبيل المثال، عاشت فرنسا القرن التاسع عشر بكامله لتتخلص من آثار العنف الذي رافق الثورة الفرنسية وحكم المقصلات، ولكنها لم تتخلص منها نهائيا، فهي تعود إلى الواجهة عبر البرامج والمؤتمرات والقمم، من أجل تصحيح هذا المسار أو ذاك. وهكذا بالنسبة لنا، وعلى سبيل المثال، تحتاج حروبنا إلى خمسين عاما أخرى لكي تتعافى من العنف والقسوة والتدمير والتهجير وويلات الحرب والإرهاب.
لذلك يجب على بلدان العالم الثالث أن تبني مؤسساتها لضمان الديمقراطية وسيادة القانون، والحروب لن تساعد هذه البلدان على إنشاء هذه المؤسسات مما يعرضها للانهيار نتيجة افتقارها إلى المؤسسات.
يكافح العالم من أجل منع امتداد العنف والإرهاب، لأن ذلك من شأنه أن يخلخل العلاقة بين الإنسان وواقعه.
هل ستبدأ الحرب الباردة بين إنجلترا وبلدان الاتحاد الأوروبي بعد أن غابت لسنوات طويلة؟
سؤال ستجيب عليه الأيام المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة