وطالما أن شعار «صعود الفونيكس» لا يرمي إلا لبث الارتياح في صفوف بعض الروس، فإنه لا غضاضة في ذلك.
في وقت سابق من الشهر، أحيى الروس الذكرى الـ25 لسقوط الإمبراطورية السوفياتية، ودار حديث كثير حول أن ما يدعي الكثيرون داخل موسكو أنه «فترة انتقالية» أوشكت الآن على نهايتها، بمعنى أنه عام 1992، لم تعد روسيا، التي شكلت القوة الجوهرية داخل الاتحاد السوفياتي، قوة عظمى، لكنها شرعت الآن في استعادة مكانتها بفضل فلاديمير بوتين.
ويدعم أصحاب الادعاء أن «الفونيكس الروسي» يعاود النهوض من بين ركام الإمبراطورية السوفياتية ادعاءهم بالنجاح الذي حققه بوتين في ضم القرم واقتطاع جزء من شرق أوكرانيا وأطلق عليه نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، بجانب ابتلاعه 20 في المائة من مساحة جورجيا، وتحويله إيران إلى دولة عميلة تخدم مصالحه، وصعود روسيا عاملاً محوريًا داخل سوريا التي تمزقها الحرب.
وربما يكون الأهم من ذلك أن مكانة روسيا الجديدة لاقت اعترافًا علنيًا من قبل إدارة أوباما، وبخاصة مع مناقشة وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع «شركائنا الروس» مجموعة متنوعة من القضايا، بدءًا من الاتفاق النووي الزائف مع إيران وصولاً إلى المأساة السورية.
وطالما أن شعار «صعود الفونيكس» لا يرمي إلا لبث الارتياح في صفوف بعض الروس، فإنه لا غضاضة في ذلك، وبخاصة أن الأمم، مثل الأفراد، بحاجة إلى بعض الخيال لإضافة نكهة طيبة إلى الحياة.
بيد أن الخطر يكمن في التعامل مع هذا الادعاء على محمل الجد، الأمر الذي قد يخلف نتائج كارثية على روسيا وباقي العالم. وربما يخدم موسكو إلقاء نظرة متعمقة على حقيقة موقفها الحالي من أجل تجنب الوقوع في الخطأ الكلاسيكي المتمثل في المبالغة في تقدير قوة المرء الذاتية.
في الواقع، إن محاولة تقدير القوة الحقيقية لموسكو شكل تحديًا كبيرًا أمام صانعي السياسات داخل موسكو وعواصم أوروبية منذ عصر الحروب النابليونية على الأقل.
ومع هذا، فإنه من المنظور الجيوسياسي، تبدو نقاط القوة الروسية واضحة، فمن حيث مساحة الأراضي، يمتد الاتحاد الروسي عبر قارتين، ويعتبر الدولة الأكبر على وجه الأرض. ومن حيث السكان، تأتي روسيا في المركز العاشر، خلف بنغلاديش مباشرة.
وفيما يتعلق بالقوة الصلبة، نجد أن روسيا لا يتفوق عليها بين الدول سوى الولايات المتحدة فقط. وتملك روسيا قوة نيران تكفي لتدمير الكوكب عدة مرات.
وفي غضون السنوات القليلة الماضية، الأمر الذي يعود جزء من الفضل فيه إلى نجاح أوباما في الحيلولة دون اضطلاع الولايات المتحدة بدور قيادي، تمكنت روسيا من استعراض قوتها. وفي الوقت الذي تعمد روسيا فيه إلى استغلال القوة القليلة المتاحة لديها، نجد أميركا تحت قيادة الرئيس أوباما ممنوعة من استغلال ولو جزء يسير من القوة الهائلة التي تتمتع بها.
إلا أنه عند إمعان النظر نجد أن إنزال الهزيمة بالجيش الجورجي الوليد لم يكن بالمهمة الصعبة. كما أن القصف المكثف للمدنيين في حلب الذين ليس بوسعهم الانتقام لأنفسهم، كان مهمة أكثر سهولة.
ومع ذلك، ربما لا يكون الوحش الروسي بهذه القوة الضخمة التي قد يبدو عليها، فمع تراجع معدلات المواليد يبدو المستقبل الديموغرافي لروسيا مظلمًا. وهذا الأمر يحمل أهمية كبيرة؛ لأنه على مر التاريخ كان من العناصر الرئيسية الواجب توافرها في أي إمبراطورية صاعدة تمتعها بهرم ديموغرافي نشط.
إضافة لذلك، يعاني الاقتصاد الروسي من وضع متردٍ، فمع تراجع العائدات النفطية وتنامي تكلفة ضم أراضي جديدة للبلاد والمبالغ الضخمة المطلوبة لتدمير سوريا وإبقاء بشار الأسد في الرئاسة، مع مستوى غير مسبوق من هروب رؤوس الأموال والفساد الهيكلي والعقوبات الغربية وانحسار الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كانت المحصلة النهائية موجة من الانهيار الاقتصادي.
وتبعًا لتقديرات صندوق النقد الدولي لهذا العام، فإن روسيا تأتي في المرتبة الـ17 عالميًا كأكبر اقتصاد بإجمالي ناتج داخلي يقدر بـ1.267 تريليون دولار، في تراجع كبير عن ذروته البالغة 2.2 تريليون دولار عام 2013، عندما كانت أسعار النفط نحو ضعف ما هي عليه الآن.
وعليه، فإن البعض يرى أن بوتين يعمد إلى استعراض القوة بمناطق ضعيفة في محاولة لتشتيت الأنظار بعيدًا عن المشكلات الداخلية التي تعانيها بلاده. ومن بين المؤشرات على ذلك الضجة الضخمة التي أثيرت حول حصول موسكو على توقيع الأسد على اتفاقية تضمن لروسيا استغلال قواعد بحرية وجوية دائمة على امتداد السواحل السورية لمدة 49 عامًا. في المقابل، فإن القليلين داخل موسكو تساءلوا حول ما إذا كان الأسد نفسه سيبقى في الحكم لمدة 49 عامًا من الآن، بل وهل ستبقى سوريا ذاتها في الوجود؟
ربما يؤدي سلوك بوتين إلى تغيير في الرأي العام بدول حلف شمال الأطلسي «ناتو»، وربما حتى في الصين واليابان لاستهلاك مزيد من الأسلحة.
يبلغ متوسط الإنفاق على الأسلحة بدول الناتو 1.25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي من الدول الأعضاء بالحلف، التي يبلغ عددها 28 دولة، وتسعى إدارة ترامب الجديدة إلى زيادة تلك النسبة لتصبح 2 في المائة. إن حدث ذلك، وفي حال حاول بوتين التواؤم مع ذلك في سباق تسلح غير معلن، فسوف يتعين عليه أن يخصص 45 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الروسي لهذا الغرض.
أخر مرة حدث فيها شيء مثل هذا، كان في الاتحاد السوفياتي السابق في عهد ميخائيل غورباتشوف، وكانت النتيجة أن الإمبراطورية انهارت بفعل التناقضات والضغوط التي مارستها على نفسها.
وحتى الآن، فإن الوحدات العسكرية الروسية تتمدد من سواحل النرويج إلى أقصى حدود سيبيريا، في عرض يشبه فيلم «صحراء التتار»، وفي بحث عديم الفائدة عن غزاة من وحي الخيال.
في نفس الوقت، احتلت الصين سيبيريا في هدوء تام، وفي عام 2015، كان يقدر عدد المستوطنين الصينيين بنحو 3.4 مليون نسمة، والعدد في ازدياد. زلة أخرى من زلات بوتين الاستعمارية تمثلت في فشل روسيا في استقطاب أي حلفاء، ناهيك عن فلول النظام البعثي في دمشق، وحتى ملالي إيران رفضوا الدخول في تحالف رسمي مع موسكو، فقد رد بوتين الجميل بأن أبطل مطلبهم الانضمام إلى مجموعة شنغهاي، والمجموعة نادٍ تقوده بكين وموسكو من المفترض أن يحارب الإرهاب.
فرغم أن روسيا ليس لها حلفاء، فإن حلفاء الولايات المتحدة كثر، أغلبهم أو ربما جميعهم جرى تجاهلهم أو معاداتهم خلال فترة حكم أوباما. فباستثناء حلفاء الناتو الـ27، فالولايات المتحدة لها معاهدات عسكرية مختلفة وقعتها مع 46 دولة حول العالم، وقواعد عسكرية في جميع القارات.
فأحلام إمبراطورية بوتين زلة أخرى. فقلة قليلة من الغرباء، باستثناء إدوارد سنودن، يرغبون في الاستقرار في روسيا أو إيداع أموالهم في بنوكها. وعلى النقيض، حتى الآن يهاجر الآلاف من الروس إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية كل عام، ومن لم يهاجر منهم يقوم بإرسال أمواله إلى لندن أو فرانكفورت أو نيويورك، ومؤخرًا إلى قبرص.
لديّ اقتراح، هو أن تترك دول الغرب الديمقراطية الحبل لروسيا حتى نهايته لتشنق نفسها به، فتكلفة إعادة إعمار سوريا تقدر بنحو 1.5 تريليون دولار، وبناء الإمبراطوريات عادة مقيتة، وباهظة الكلفة في وقتنا الحالي.
* نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة