حاولت فرنسا دفع روسيا وأوكرانيا إلى طاولة المفاوضات بوساطة صينية.
تريد باريس من بكين توظيف صداقتها مع موسكو للضغط على الرئيس فلاديمير بوتين من أجل وقف الحرب، ولكن أسئلة كثيرة تدور حول هذه المساعي التي لم يحصل الرئيس إيمانويل ماكرون على أي إشارات إيجابية بشأنها من الحلفاء أو الخصوم، حتى الآن.
السؤال الأول يتعلق بالموقف الصيني: هل تريد بكين فعلا إنهاء الحرب بين موسكو وكييف، أم تود استمرارها لحصد ثمارها على المديين القصير والمتوسط؟، فالخصومة الغربية الروسية تتيح للتنين الصيني الضغط على الطرفين بشكل مباشر وغير مباشر لتمرير مصالحه، كما أن تواصل الحرب في قارة أوروبا قد يؤجل اندلاعها في أسيا.
تستخلص الصين الدروس من حرب أوكرانيا، وكيف يمكن للغرب أن يجتمع حول عدو واحد، قد يكون اختلاف الجغرافية وعدم وجود حدود مشتركة مع الأوروبيين والأمريكيين، عاملا مساعداً لبكين، ولكنها تريد أن تحتاط أيضا للعقوبات الاقتصادية والإجراءات العسكرية التي يمكن للغرب أن يمارسها عن بعد وضد أي دولة حول العالم.
الأوروبيون أيضا استفادوا من الحرب الأوكرانية، وتعلموا خطورة التبعية العمياء لأمريكا، عبر عن ذلك صراحة الرئيس الفرنسي عندما زار بكين، وما باح به إيمانويل ماكرون أمام وسائل الإعلام بشأن "الاستقلال" عن الولايات المتحدة، تعج به سرا أروقة السياسة والأمن والدفاع في جميع دول القارة العجوز منذ أشهر عديدة الآن.
لا تعامل الولايات المتحدة حلفاءها على أساس وحدة المصير، وإنما اعتمادا على حجم المساعدة التي يحتاجونها، وكلما كبرت الحاجة، اتسعت رقعة الضغوط التي قد تمارسها لتحقيق مصالحها. لا يوجد شيء مجاني في العلاقات الدولية، ولكن الولايات المتحدة تتبع أحيانا سياسة "أنانية" في دعم أصدقائها لتجاوز أزماتهم ومشكلاتهم عامة.
من هنا يأتي السؤال حول الموقف الأوروبي من المساعي الفرنسية لحل أزمة أوكرانيا بواسطة صينية، فهل من صالح الأوروبيين توسط بكين في هذه الحرب التي تمسهم بشكل مباشر؟، هل تكون جهود ماكرون مجرد تأكيد معنوي على عدم رغبة بلاده بمواجهة الصين، وعدم تأييدها لفكرة إشعال حرب ضدها في جزيرة تايوان؟.
ألمانيا أيضا لا تريد الخصومة مع الصين، ولا تريد أيضا مساعدة أمريكا على شن حرب ضدها في آسيا، وإن كان هناك مواقف متشددة لمسؤولين في التكتل الأوروبي تنادي بربط العلاقة مع الصين بمدى تخليها عن روسيا، فهذه مجرد بيانات دبلوماسية، الغرض منها الإبقاء على الملف الأوكراني في صدارة الاهتمامات الأوروبية.
وطالما أن الأوروبيين، أو الدول القادة في الاتحاد الأوروبي بتعبير أدق، لا يؤيدون اشتعال جبهة الغرب مع الصين، لن تكون الولايات المتحدة مستعدة لتهدئة المواجهة مع روسيا. صحيح أن هذه المواجهة مكلفة للخزانة الأمريكية، ولكن منافعها كبيرة. وهناك من يعتقد في واشنطن أنها ستفكك روسيا لدويلات تنضم تباعا إلى الناتو.
الرهان الأمريكي على "هدم" روسيا من خلال الحرب الأوكرانية، لن يتوقف إلا إن قبلت موسكو وكييف بالتفاوض، يمكن للولايات المتحدة الضغط على الأوكرانيين كي يواصلوا رفض الأمر، أو ربطه بانسحاب الروس من كامل بلادهم بما فيها شبه جزيرة القرم. ولكن لن يكون بوسعها منع بوتين من التفاوض إن وجد مقابلا مناسبا.
ما هو المقابل المغري للرئيس الروسي؟ وهل يمكن لفرنسا والصين توفيره؟ ربما يكون السماح للمناطق الأوكرانية التي ضمتها موسكو مؤخرا بإجراء استفتاء أممي على الاستقلال، وتنازل كييف عن القرم نهائيا، أو ربما يكون الانسحاب من أوكرانيا بشرط عدم دخولها الناتو، واستعادة موسكو لعلاقاتها الجيدة مع الاتحاد الأوروبي.
أيا كان المقابل الذي ينتظره بوتين، فهو لا يخص الفرنسيين وحدهم، ولا يمكن لباريس أن تقدمه دون موافقة عواصم الاتحاد الأوروبي. ولكن التكتل لم يكن موحدا إزاء العلاقة مع موسكو في زمن السلم، فما بالك الآن وقد جرى ما جرى. كما أن التكتل باتت تحميه الولايات المتحدة، فكيف له أن يعارضها في العلاقات مع روسيا؟
بالنسبة لأوكرانيا، أي تنازل ميداني لروسيا هو خسارة لن تمضي إليها كييف إلا مرغمة، وهذا يتم إما بوقف الغرب لتسليحها، أو إقصائها من أي معادلات عسكرية قد توفر لها الحماية مستقبلا عبر الناتو. ولكن في الحالتين سيلتزم الأوروبيون والأمريكيون بإعادة إعمار أوكرانيا، وتثبيت حدودها مع روسيا بشكل نهائي وإلى الأبد.
واقع الحال يقول إن كل الطرق إلى المفاوضات بين موسكو وكييف يجب أن تمر عبر واشنطن، سواء كانت الصين أو غيرها من الدول، هي الوسيط. ويقول أيضا إن كل الطرق إلى هذا المسعى ستبقى مغلقة إلى حين اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية المقبلة. فذلك الاستحقاق هو وحده من سيقرر مصير حرب أوكرانيا في 2024.
خلال العام الجاري، سيبذل كلا من الروس والأوكرانيين كل ما بوسعهم لتثبيت خرائطهم على الأرض. فتكون منطلقا لأي مفاوضات خماسية تجلس على مائدتها موسكو وبروكسل وواشنطن وكييف وبكين. إن التئمت هذه الطاولة بجهود ماكرون سيكون لباريس الكلمة الأولى أوروبيا، ولكن لا ضمانات بأن تكون النتائج مبشرة.
الخيار الأقوى وليس الوحيد، لإنجاح تلك المفاوضات هو أن يعود الرئيس الأمريكي السابق إلى البيت الأبيض. صحيح أن ماكرون لن يفرح كثيرا بهذا، ولكن دونالد ترامب يقول إنه يملك حلا لإنهاء الصراع الأوكراني الروسي. فإما أنه يحمل في جعبته ما يكافئ فرنسا على سعيها للسلم في أوروبا، أو ينقلب السحر على الساحر؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة