شحوب في الدور الأمريكي العالمي يظهر أكثر في تراجع التماسك في حلف الأطلنطي، وفي العلاقات الأمريكية مع بقية الحلفاء في العالم.
في عام ١٩٨٧ صدر لي كتاب "العرب ومستقبل النظام العالمي" عن مركز دراسات الوحدة العربية.
الكتاب بدأ كورقة "خلفية" لمشروع كبير ضم العشرات من الباحثين العرب تحت عنوان "استشراف مستقبل الوطن العربي"؛ فلم يكن ممكنا أن يحدث هذا الاستشراف ما لم نعرف ما سوف يكون عليه حال العالم خلال العقود القادمة.
وهكذا شرعت في النظر إلى "النظام العالمي" من زوايا القوة العسكرية والاقتصادية والناعمة أيضا، مع تركيز كبير على التطور في قوى الإنتاج أو التقدم التكنولوجي الجاري آنذاك خاصة في الكتلتين الأمريكية والسوفيتية. المادة العلمية التي جمعتها كانت كافية لورقة من ٧٥ صفحة، ولاستنتاج صارخ هو أنه فيما عدا التكافؤ في الأسلحة النووية والقوة العسكرية بشكل عام فإن الاتحاد السوفيتي لم يكن إلا دولة من دول العالم الثالث التي تعيش على تصدير المواد الأولية مضافا لها السلاح.
وأكثر من ذلك يقف بين الدول الفاشلة في إنتاج غذائها، وغير القادرة على تصدير منتج يلقى القبول في الأسواق العالمية. في ذلك الوقت كان الاتحاد السوفيتي يعاني أولا من حالة جمود كبيرة في القيادة السياسية أعقبها ثانيا بتغييرات سريعة في القيادة، وانتهت ثالثا إلى تولي ميخائيل جورباتشوف قيادة الدولة ببرنامج جديد كان معروفا باسم "البيروستوريكا" أو إعادة البناء.
ولم يكن معروفا إلى أي مدى سوف يستجيب له الجسد السوفيتي المريض. حدث ذلك بينما كان القطب الأمريكي على الجانب الآخر يتجاوز كارثة فيتنام ويدخل في مرحلة من العنفوان الاقتصادي مع بدايات الثورة التكنولوجية الثالثة ومع تولي رونالد ريجان للقيادة في البيت الأبيض، والخلاصة كانت أن عالم القطبية الثانية، والحرب الباردة، في الطريق إلى الانتهاء نتيجة انهيار الدولة السوفيتية وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم. وحينما اجتمع فريق البحث "الرئيسي" لكي يناقش الورقة المقدمة ارتج عليهم القول والمحاجاة على أساس أن الحالة السوفيتية يمكنها استرداد عنفوانها بالإصلاح وأن ذلك وارد مع السيد جورباتشوف. وكما هو الحال في مثل هذه الحالة تواصل المجتمعون إلى أولا أن تتحول الورقة إلى كتاب، وثانيا أن يضاف بعد استنتاجات الورقة "تحفظات هامة" تقول إنه ربما يتغير تاريخ العالم إذا ما حدثت إصلاحات جذرية في النظام السوفيتي.
إن الاقتصاد الأمريكي لم يكن جاهزا للأزمة، في الوقت الذي لم يكن فيه متحمسا للتعاون الدولي أو للتعامل مع المنظمات العالمية متعددة الأطراف خاصة منظمة الصحة العالمية.
في الواقع لم يحدث هذا، وانهار الاتحاد السوفيتي، وانتهت الحرب الباردة، وأصبحت الولايات المتحدة الدولة العظمي الوحيدة في العالم. باختصار أصبح العالم أحادي القطبية بقيادة واشنطن، وأحادي الفكرة أن الازدهار والتقدم والتفوق هو قرين الليبرالية الديموقراطية الرأسمالية في عالم تحكمه "العولمة".
وبعد ثلاثة عقود تقريبا على إشهار واشنطن لزعامتها في العالم فإن الشواهد تشير إلى كثير من الشروخ ذات الطبيعة الهيكلية المتعلقة بالتنظيم والتطور في قوى الإنتاج الذي يؤثر على توازن القوى النسبي بين الدول؛ وبعضها الآخر له طبيعة ظرفية متعلقة بأحداث عالمية تضع الدولة العظمى موضع الاختبار.
هذه الأخيرة تظهر بقوة فيما ظهر من انسحاب أمريكي من العالم، ولم يكن ذلك فقط من محصلة الحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق، والتدخلات في سوريا ودول أخرى، التي انتهت بالبحث عن سلام مع حركة طالبان، أو الانسحاب العسكري جزئيا أو بشكل كامل؛ ولكن أيضا في العجز عن تنظيم العالم لمقاومة الإرهاب. وبينما يجري هذا الشحوب في الدور الأمريكي العالمي فإن تجلياته ظهرت أكثر في تراجع التماسك في حلف الأطلنطي، وفي العلاقات الأمريكية مع بقية الحلفاء في العالم.
ولا يمكن أن يعزى ذلك فقط إلى الظرف الوقتي الخاص بتولي دونالد ترامب لقيادة الولايات المتحدة حيث أن كثيرا من سياساته كانت لها بوادر خلال إدارة باراك أوباما الذي لا كان مستريحا للتواجد الأمريكي الواسع في العالم، ولا كان ممكنا له أن يتجاوز الأزمة الاقتصادية لعام ٢٠٠٨ دون تقليص للامتداد العالمي الأمريكي.
وبدون الدخول في كثير من التفاصيل فإن ظرف "كوفيد-١٩" وضع النظام السياسي الأمريكي وقدرته في اختبار كبير.
وبعد أكثر من أربعة شهور من أزمة كورونا فإن الولايات المتحدة تبدو إحصائيا واقعة في قمة الخاسرين من الأزمة. فهي لم يكن لديها أكثر من ثلث المصابين والوفيات في العالم فقط، ولم تصل البطالة فيها إلى قرب ١٥٪ فحسب، ولكن عدد المطالبين بإعانات للبطالة وصل إلى ٣٣ مليونا من العاطلين. الأزمتين الصحية والاقتصادية لم تكن وحدها على الساحة وإنما صاحبهما أزمة سياسية من الطراز الثقيل؛ فلم تصل تلك الصيحة إلى البيت الأبيض وحده عندما وصل الفيروس إلى داخل الرئاسة الأمريكية، وإنما تقطعت بها السبل مع المؤسسات الأمريكي الأخرى بما فيها الكونجرس والأجهزة والمؤسسات المعنية بالأزمة، ووصلت الأزمة في النهاية داخل الحزب الجمهوري ذاته.
ما كان مضمونا قبل شهور من بقاء دونالد ترامب في مقعد الرئاسة لأربعة سنوات أخرى بات أمرا مشكوكا فيه بعد أن بات الرئيس عاجزا عن خلق توافق سياسي حول سياسته، وكبديل بات معتمدا على القرارات التنفيذية الرئاسية.
ومرة أخرى فإن ذلك لم يكن احتكارا خالصا للرئيس ترامب، ولكن العام الأخير من قيادة أوباما اعتمد أيضا على القرارات التنفيذية الرئاسية. وما زاد الشرخ عمقا أن النظام الفيدرالي الأمريكي لم ينجح في الامتحان، وباتت التوجهات لمعالجة الأزمة ممزقة بين الحكومة الفيدرالية وحكام الولايات ومجالسها التشريعية وحتى الجمهور العام.
وبدون الدخول في التفاصيل أيضا فإن الاقتصاد الأمريكي لم يكن جاهزا للأزمة، في الوقت الذي لم يكن فيه متحمسا للتعاون الدولي أو للتعامل مع المنظمات العالمية متعددة الأطراف خاصة منظمة الصحة العالمية.
كانت الولايات المتحدة معتمدة على أن التقدم العالمي في مجال الصحة لم يعد يسمح بوباء كبير، وإذا حدث فإنه يحدث في دول العالم الثالث حيث يمكن للمؤسسات الدولية التعامل معه.
ومع هذا التصور الذي ثبت خطؤه فإن الولايات المتحدة تخلت عن كثير من الصناعات البسيطة مثل صناعة الأقنعة والقفازات والأردية الطبية؛ وأكثر من ذلك عن الأجهزة الطبية الضرورية للتعامل مع قطاعات واسعة من السكان.
كانت الولايات المتحدة تعيد توزيع الصناعات في العالم بحيث تحافظ على تفوقها في مجالات الفضاء والاتصالات والتكنولوجيا الحيوية والتركيز على أمراض مثل السرطان والزهايمر والسكري والسمنة لأنها تكلف الموازنة الأمريكية الكثير، وتركت الصناعات الأكثر بساطة لدول أخرى طالما أن الجميع سوف يكون جزءا من سوق عالمية تقودها الولايات المتحدة.
ولكن الوباء أثبت خطأ هذه النظرة، وفي الواقع فإنها سببت الكثير من التخبط وسقوط للضحايا. وبعد أن كانت حصة الولايات المتحدة 21 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإن التوقع الآن بعد الأزمة أنه بينما سيكون نصيب الصين ما يقرب من19 ٪ من الاقتصاد العالمي، فإن حصة الولايات المتحدة سوف تنخفض إلى 15٪.
الشرخ الأكبر في القوة الأمريكية ربما حدث في كسوف التفوق التكنولوجي الأمريكي.
فبعد الوعد الكبير لثورة المعلومات في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، تمتعت الولايات المتحدة وحلفاؤها بميزة عسكرية وتكنولوجية كبيرة على أي خصم محتمل. الآن، مع دخول التقنيات الجديدة إلى دائرة الضوء وأصبح المنافسون أكثر مهارة في الاستحواذ على نقاط القوة أو تعويضها، فإن هذا التفوق النوعي في التسلح والتكنولوجيا بوجه عام يتآكل.
وبعد أن كانت الحكومة الفيدرالية الأمريكية تتولي أكثر من ٥٠٪ من تكلفة البحوث والتطوير، فإنه منذ عام ٢٠١٨ تمثل الحكومة الفيدرالية الأمريكية أقل من ربع التمويل الوطني للبحث والتطوير. وعلى مدى العقد الماضي، أصبح الاتجاه نحو التمويل الخاص أكثر ظهورا في الولايات المتحدة.
وأصبحت شركات التكنولوجيا الخاصة تعمل في نموذج اقتصادي عالمي قائم على المعاملة غير التمييزية وكان الفائز هو الصين. وفي كثير من الحالات، أدت هذه التطورات إلى نقل المعرفة الخاصة، وكذلك المعرفة المهمة، وإلى استحواذ الصين على شركات أو أصول أمريكية، بلغت رقما قياسيا قدره 44.2 مليار دولار في عام 2016 وحده. في حين أن أكبر تدفق للاستثمار الأجنبي المباشر الصيني كان في قطاع العقارات.
وجاءت الاستثمارات في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المرتبة الثانية. باختصار تغيرت علاقات القوى النسبية بين الولايات المتحدة والصين وبينها وبين العالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة