البشرية بأكملها اليوم ترفع أيديها للسماء تضرعاً للخلاص من الوضع الذي تعيشه اليوم وهي تحصي أعداد مصابيها وموتاها من فيروس كورونا
لفترة طويلة مقبلة ستظل الأقلام تنحت حروفها وتنقش عباراتها على صخور فيروس كورونا القاسية. وستظل شهية الناس مفتوحة لالتهام كل التفاصيل المتعلقة بهذا "الكائن الميكروبي" الذي لم يروه، ولكنهم أحسوا به هلعاً ورُهاباً وعزلةً وحجراً منزلياً وصحياً وحزناً على من فقدوا بسببه.
ثم بعد ذلك سيقلبون هذه الصفحة ليفتحوا صفحة جديدة عنوانها اللهاث خلف أحداث وتفاصيل لا حصر لها، ستتركز زاوية الرؤية فيها على أن "السيد كورونا" أشعل ثورة غير مسبوقة في شموليتها جبّت كل ما قبلها من علاقات شخصية وعامة وأنظمة اجتماعية وسياسية واقتصادية ومالية وإنتاجية.
وقد بدأ البعض فعلاً التنبؤ لشكل عالم ما بعد كورونا، ويُجمعون على القول إنه يؤسس لمرحلة جديدة في التاريخ، تماماً مثلما حصل بعد اختراع العجلة والثورة الصناعية وبعد اختراع أديسون لمصباحه.
صحيح أن العالم عرف في منتصف القرن الماضي حرباً عالمية مُدمرة حصدت أرواح الملايين وأتت على مدن وبلدان بأكملها وقوّضت نظاماً عالمياً لتحلّ محله نظاماً جديداً، ولكن تأثيرات فيروس كورونا المتوقعة بعد أن تضع حربه أوزارها، ستفوق كثيراً بتداعياتها تأثيرات الحرب العالمية الثانية، وإن كان عدد ضحاياه أقل بما لا يُقاس بعدد ضحاياها
صحيفة "نيويورك تايمز" قدمت صورة قاتمة عندما توقعت أن يصل عدد المصابين بفيروس كورونا في الولايات المتحدة وحدها إلى ما بين مليونين ومئتي مليون شخص وأن أسوأ السيناريوهات، كما قالت، تشير إلى وفاة نحو مليوني شخص.
وفي لقاء تلفزيوني مع شبكة "سي إن بي سي الأمريكية"، بدا رجل الأعمال والمليادير الأمريكي بيل آكمان مؤسس ومدير شركة بيرشينغ كاببيتول سكوير، أكثر تشاؤماً عندما حذّر من تسونامي في طريقه لضرب الولايات المتحدة بسبب فيروس كورونا. وقال إن أكثر ما يخيفه ويرعب الأمريكيين هو الانهيار التدريجي الحاصل لمنظومة البلاد الاقتصادية والمالية. وأضاف بأسف: أرى أن أمريكا التي كنّا نعرفها قد انتهت للأبد بسبب أزمة فيروس كورونا (؟!)، وحمّل إدارة الرئيس دونالد ترامب المسؤولية عن ذلك بسبب ترددها في اتخاذ التدابير المشددة لمواجهة هذا الوباء.
وتوقع آكمان أن يعلن كثير من شركات الفنادق والمطاعم الإفلاس، مشيراً إلى أن شركة بوينج قد تكون أول من يعلن إفلاسه من بين هذه الشركات الكبرى، إذا لم تتلقَ دعماً حكومياً عملاقاً. كما توقع استمرار أزمة كورونا لمدة عام ونصف العام على الأقل، وهو ما يستحيل معه استمرار العمل بنفس الطرق المتبعة حالياً.
صحيح أن العالم عرف في منتصف القرن الماضي حرباً عالمية مُدمرة حصدت أرواح الملايين وأتت على مدن وبلدان بأكملها وقوّضت نظاماً عالمياً لتحلّ محله نظاماً جديداً، ولكن تأثيرات فيروس كورونا المتوقعة بعد أن تضع حربه أوزارها، ستفوق كثيراً بتداعياتها تأثيرات الحرب العالمية الثانية، وإن كان عدد ضحاياه أقل بما لا يُقاس بعدد ضحاياها.
فهذا المقاتل الشرس، المتخفي والمتمرس بحجمه الميكروبي، استطاع في غضون ثلاثة أشهر أن يفعل ما تعجز عن فعله أعتى الجيوش وأكثرها تدريباً وتسليحاً وجهوزية وشراسة "مجاناً"؛ أي من دون أن يخسر دولاراً واحداً، بل أجبر العالم على إنفاق تريليونات الدولارات لتحييده ولو مؤقتاً أو لإجباره على أخذ "استراحة محارب" إن بعقار أو مصل أو بأي استطباب آخر.
آثار كورونا المستقبلية ستفوق بكثير ما تتوقعه الغالبية العظمى من الناس؛ ستبدأ بتشكيل جوانب وعادات شخصية جديدة للأفراد، ولن تنتهي بإعادة تشكيل الجغرافيا القيمية والاقتصادية والمالية والسياسية للعالم، وعلى الأغلب ستفرز من بين حطام ما دمرته قيادة أو قيادات عالمية جديدة، وستقوّض تحالفات سادت لفترة طويلة من الزمن، وتحل محلها تحالفات جديدة قد لا تخطر على بال.
على الصعيد الفردي ثمة تحولات كبيرة في أنماط سلوك وتفكير الناس بدأت بالظهور، وطالت حتى المقدسات والمعتقدات الدينية والأيديولوجية. وبات التساؤل في الشارع الأوروبي عن "الحكمة الكامنة وراء الفائض في دور العبادة التي لم تزدحم يوماً بالمؤمنين بينما ضاقت المستشفيات بالمرضى"، مُلحاً وأكثر من مشروع. وهذا التساؤل ستليه بالقطع تساؤلات أخرى ستطال بالنقد والمراجعة، وربما الاختيار بالقوة، النظم السياسية والصحية والاجتماعية التي يريدونها بعد اختبار كورونا المؤلم، وبالتالي ثورة هذا الفيروس من المتوقع أن تدّك قلاع نُظم وأساليب العمل والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والعادات والتقاليد.
وفيما يشير إلى أن فيروس كورونا نبّه الأوروبيين إلى صوابية ما قاله جبران خليل جبران في بداية القرن الماضي: "ويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتأكل مما لا تزرع وتشرب مما لا تعصر"، فقد بدأوا التداول بقرار إعادة تصنيع مكونات الأدوية ذاتياً بدل الاعتماد كلياً على الصين والهند، حيث تعتمد عليهما أوروبا والولايات المتحدة في استيراد الأدوية، وجاء هذا القرار بعد إعلان الهند بداية مارس/آذار الجاري عزمها ترشيد صادراتها من الأدوية، الأمر الذي جعلها تدق ناقوس الخطر، حيث يتم تصنيع منتجات شركات الأدوية الأوروبية في الهند. كما تستورد 70 في المئة من المكونات الأساسية لقطاعها الصحي من الصين. وقد تدنت القدرة الإنتاجية للمصانع الصينية الخاصة بهذه المستلزمات بشكل كبير بعد تفشي فيروس كورونا، وإغلاق آلاف المصانع التي كانت تؤمّن إمدادات العالم من المضادات الحيوية وأدوية فيروس نقص المناعة "الإيدز" وداء السكري.
وبذلك وجد الأوروبيون أنفسهم مضطرين للبحث عن استراتيجيات بديلة تلغي تماماً تبعية قطاع الأدوية للهند والصين وتأمين استقلالية تامة له. وبالتأكيد ستتبع هذه الخطوة خطوات مماثلة في قطاعات أخرى، وكلها مؤشرات على أن عصر ما بعد كورونا بدأ بالتشكل إذا فهمنا عمق وتأثير هذه الإجراءات.
وعلى صعيد التحالفات الدولية، بدأ الحديث يكثر عن ظهور ملامح خلافات عميقة قد تتحول إلى عداء بين روسيا والصين على خلفية انخفاض أسعار النفط، حيث لم تزد بكين كمية مشترياتها من النفط الروسي رغم رخصه، وألغت العقود الآجلة مع شركات النفط الروسية تحسباً للعقوبات الأمريكية على روسيا، وهو ما اعتبرته موسكو خيانة للتحالف بينهما واصطفافا صينيا في جبهة الولايات المتحدة لضرب اقتصادها، خصوصا أن موسكو تعتبر خسارة هذا السوق بمثابة إعلان حرب صينية أمريكية مزدوجة ضدها، وهي حرب قد تلجأ لمواجهتها بتسخين بعض البؤر القريبة من المصالح الصينية في آسيا، وفوق ذلك ستكون مضطرة لتقديم تنازلات مؤلمة لأوروبا للتقارب معها وضمانها سوقا وحيدا لنفطها وغازها حفاظاً على اقتصادها أمام هذه التحولات الكبرى.
وهذا السيناريو سيتجلى بوضوح في الربع الأخير من العام الجاري، وبالتالي فإن الأعباء الاقتصادية الجديدة التي ستعقب وباء كورونا ستقلب موازين التحالفات الدولية وتحوّل بعض الأصدقاء إلى أعداء لدودين.
وذهب بعض خبراء الاقتصاد إلى رسم ملامح عصر ما بعد كورونا بتأكيدهم أننا سنشهد ولادة اقتصادات جديدة تعتمد الأسلوب الرقمي كلياً، وفي نفس الوقت سنشهد عودة اقتصادات قديمة كالزراعة والصناعات المتوسطة والخفيفة، فيما سيكون الاقتصاد الخدمي من سياحة وطيران ومصارف، من أكبر المصابين بفيروس كورونا.
ويقول هؤلاء أيضاً إن الحياة ستتطوراً بوتيرة يفوق تسارعها كل التوقعات، والدول ستنقسم إلى قسمين؛ أحدهما سيحجز مقعداً مريحاً في قطار الاقتصاد الجديد، والثاني لن يجد الفرصة حتى للتعلق به بسبب عدم امتلاكه البنية التحتية التكنولوجية أو التعليمية والتدريبية، وبالتالي الكوادر البشرية لنوع كهذا من التحولات، ليعيش في عزلة ولن يكون باستطاعة أحد تقديم أيّ مساعدة لها بسبب انشغال الجميع بتثبيت أقدامهم على أرض عالم جديد.
البشرية بأكملها اليوم ترفع أيديها للسماء تضرعاً للخلاص من الوضع الذي تعيشه اليوم، وهي تحصي أعداد مصابيها وموتاها من فيروس كورونا، فيما تحولات حياتنا المستقبلية حددت مساراتها، وبدأت بالفعل أولى خطواتها ليكون عصر ما بعد كورونا مغايراً تماماً لعصر ما قبله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة