خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت إجراءات الحجر الصحي والإغلاق التي فرضت في كثير من دول العالم خياراً لا مفر منه.
الأطباء في كل مكان يؤيدون التمهل في رفع إجراءات الإغلاق المفروضة لمواجهة وباء كورونا لأنهم يفضلون تغليب سلامة الناس على أي اعتبارات أخرى.
هو اتجاه إنساني الدافع ومنطقي التبرير في ظل حالة اللايقين التي يعيشها العالم إزاء الفيروس بتركيبته وتطوره.
ولكن هل يمكن فعلاً الاستمرار في إجراءات الإغلاق لسنوات أو حتى لأشهر طويلة؟ هل هذا الإغلاق هو الحل الحقيقي، وقد طالت تداعياته البشر بقدر ما امتدت على قطاعات المال والأعمال؟
خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت إجراءات الحجر الصحي والإغلاق التي فرضت في كثير من دول العالم خياراً لا مفر منه.
كان لابد للحكومات من احتواء صدمة الأزمة وتجنب الوقوع في براثن عواصف من الفوضى العارمة التي لا تعرف عواقبها. وباختصار، كانت الحكومات تحتاج إلى وقف تمدد الوباء من جهة، ووضع الخطط لمواجهته على المدى الطويل من جهة ثانية.
خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت إجراءات الحجر الصحي والإغلاق التي فرضت في كثير من دول العالم خياراً لا مفر منه.
جميع قرارات الإغلاق بنيت على حقيقة واحدة مفادها أن الأنظمة الصحية، حتى في الدول المتقدمة، لم تكن مستعدة لاستيعاب أعداد ضخمة من المصابين بالفيروس.
وبالتالي لابد من إغلاق مؤسسات الاقتصاد والتعليم والرياضة وغيرها، تجنباً لوقوع هذا الكم المخيف من الإصابات وانهيار القطاع الطبي بأكمله. قلة فقط من الدول ذهبت باتجاه مناعة القطيع بدلا من سياسات الإغلاق في التعامل مع أزمة الجائحة، ولكن لهذه الدول خصوصية في معايير عديدة.
الإغلاق والعزل كانا الحل في البداية. ولكن الآن تغيرت المعطيات وباتت الحكومات مطالبة بالموازنة بين حماية أرواح البشر، وبين الحاجة إلى توفير حاجات حياتهم في العمل والتواصل الاجتماعي بحدوده الدنيا. تلك الاحتجاجات التي تشهدها كثير من دول العالم ضد إجراءات الإغلاق تؤكد ذلك. فلا يمكن للبشر أن يسجنوا في المنازل لسنوات أو أشهر، طوعاً أو إكراهاً، خوفاً من المرض.
لا يتعلق الأمر فقط بالدافع الاقتصادي وحاجة الإنسان للمال أو للطعام والشراب. وإنما يرتبط أيضا بتداعيات الإغلاق على الصحة النفسية للبشر.
منظمة الصحة العالمية التي تخشى من موجة وباء ثانية وتنبه دائما إلى خطورة التسرع في رفع إجراءات الإغلاق، تحذر في الوقت ذاته من تأثيرات كبيرة للحجر الصحي والعزل على الصحة العقلية والنفسية. تستعرض المنظمة الأممية الأمر بأرقام تشمل كافة الفئات العمرية، وجميعها تقول دون مواربة إن البقاء في المنزل خوفا من كورونا، قد يسبب الإصابة بأمراض نفسية وعقلية وحتى عضوية.
المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غبريسوس يجمل الصورة بقليل من الكلمات يقول فيها، "إن العزلة الاجتماعية، والخوف من العدوى، وفقدان أفراد الأسرة يضاعفها الكرب الناجم عن فقدان الدخل والعمل في كثير من الأحيان". إذا المخاوف التي تحاصر الإنسان بالعزل تتضاعف عندما تترافق مع الحاجة المادية.
وهنا تقف حكومات الدول أمام خيارين يتيمين لا ثالث لهما، إما أن توفر المال والطعام والشراب للناس داخل بيوتهم، وإما أن تسمح لهم بالخروج إلى العمل من أجل توفير هذه المتطلبات. وكما يقال: أمران أحلاهما مر.
لا تمتلك جميع الدول القدرة على إطلاق برامج دعم لتوفير الدخل للمعزولين. وإن امتلكت القدرة على ذلك فهي محدودة زمنية ومادياً. جائحة كورونا ليست مجرد أزمة مالية كالتي حدثت في 2008 وعطلت العمل في بعض القطاعات الاقتصادية، فاحتاجت إلى دعم حكومي لاسترداد عافيتها. إنما هي شلل أصاب كافة مفاصل الحياة ووضع خزائن دول غنية وكبيرة على حافة الإفلاس.
يقول خبراء الاقتصاد إن تداعيات الوباء تفوق الكساد الكبير عام 1929. المقارنة بحد ذاتها تكفي لتصور هول الأزمة. وما يزيد الطين بلة هو أن التعويل على التضامن الدولي والتعاون في مواجهة تداعيات الوباء لم يعد ممكناً. الخيار الوحيد المتاح أمام الدول هو الاقتراض من صندوق النقد الدولي، بكلفة كبيرة وشروط سداد قاسية جداً تضيق الخناق على اقتصاديات الدول وشعوبها لعقود.
أمام كل هذه المعطيات تبدو معادلة الإبقاء على الإغلاق دون أن ينتهي بكوارث اقتصادية أو إنسانية أو صحية، شبه مستحيلة. كما يبدو رفع الإغلاق عن المناطق والمدن دفعة واحدة ودون تدرج، بمثابة سحب قابس لغم سريع الانفجار.
الحل يكمن في تدرج يلتزم فيه الناس بقواعد التباعد الاجتماعي، ويتجنبون أسباب انتقال العدوى بالفيروس. بتعبير آخر، نحتاج إلى عزلة فردية طوعية تبقي للإنسان نافذة يطل منها على العالم ليطمئن أنه لا زال على قيد الحياة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة