ميدان المنافسة الحقيقي الذي سيتبارى به حزبا المحافظين والعمال في المستقبل سيكون حول شكل الاقتصاد البريطاني
تمكنت بريطانيا حتى الآن من تجنب سيناريوهات فجة في أزمة كورونا. كما تحاول الحكومة احتواء تداعيات الوباء المباشرة أو الآنية بتعبير أدق، عبر برامج دعم سخية وتعقل كبير في رفع إجراءات العزل والإغلاق تدريجيا.
لا يعني هذا أن حكومة بوريس جونسون قد انتصرت في المعركة على الجائحة. ولا يعني أيضاً أن الدعم النسبي الذي وجده المحافظون في الأزمة من قبل الأحزاب الأخرى، وخاصة العمال، هو إعلان سلام دائم في السياسة الداخلية البريطانية.
الصراع بين الحكومة والمعارضة، وعلى رأسها حزب العمال. سيكون في المستقبل حول شكل الاقتصاد البريطاني برمته بعد زوال كارثة الوباء. هذا هو ميدان المنافسة الحقيقي الذي سيتبارى به حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال الساعي للعودة إلى الواجهة السياسية بعد هزيمة نكراء لحقت به في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي وقعت منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، واضطر على أثرها الزعيم السابق للحزب جيرمي كوربين إلى تقديم استقالته.
الحفاظ على الاقتصاد البريطاني بحلته الرأسمالية هو ما يريده حزب المحافظين. لا بأس بتطعيم هذه الحلة ببضعة لمسات اشتراكية استدعتها النتائج الكارثية للوباء على اقتصاد البلاد والاقتصاد العالمي عموما. لكن المهم هو الإبقاء على تلك المسافة الواضحة بين القطاعين الخاص والحكومي. وبخاصة في الأعمال والمجالات التي تسيطر عليها منذ عقود طويلة، عائلات إنجليزية مؤثرة جدا في السياسة الداخلية والخارجية للمملكة المتحدة.
الصراع بين الحكومة والمعارضة، وعلى رأسها حزب العمال. سيكون في المستقبل حول شكل الاقتصاد البريطاني برمته بعد زوال كارثة الوباء.
لن تمانع حكومة جونسون تأميم بعض الأنشطة الاقتصادية لاحتواء تداعيات الوباء التي قد تمتد لأعوام عدة. لن تجد ضيراً في إعادة خدمات القطارات مثلاً إلى عهدة الدولة وإشرافها. بل على العكس تماماً ستتمسك بهذه الفرصة التي لن تتكرر. وربما لم تكن لتأتي لولا كارثة كورونا التي أجبرت أرباب المال والأعمال على اللجوء إلى الدولة وطلب مساعدتها لإنقاذ ثرواتهم. كما أنها بهذا تقلل من فرص وصول حزب العمال اليساري إلى السلطة في بريطانيا.
إقدام المحافظين على تأميم شركات خاصة يعني مواجهة العمال على أرضهم وبين جمهورهم كما يقولون. فلطالما راهن حزب العمال على برامجه التأميمية، وقد انتظر طويلا حتى يحين الوقت وتتوفر الظروف لتنفيذها وتطبيقها دون أن يتهم بمحاولة نشر الاشتراكية في البلاد. ودون أن يخشى أيضا نقمة أصحاب المال والأعمال الذين يقفون خلف المحافظين وخاصة في إنجلترا.
ولا يبدو التأميم هو ميدان المنافسة الوحيد بين العمال والمحافظين خلال السنوات القليلة المقبلة.
الرئيس الجديد لحزب العمال كير ستارمر يقول إن حزبه لن يقبل باستمرار عمل البريطانيين تحت ذات الشروط والظروف والأجور التي كانت سائدة قبل الجائحة. ثمة حاجة برأيه إلى تحسين بيئة العمل، وخاصة فيما يتعلق بحماية الموظفين والعمال من تبعات الأزمات والأوبئة.
مثل هذه الحماية التي ينشدها حزب العمال تعني تغييرا كبيراً في السياسة الداخلية البريطانية. هي بشكل أو بأخر ثورة يريد الحزب بها استرداد ثقة قاعدته الشعبية التي تقارب نصف مليون عضو. يدرك المحافظون ذلك جيداً.
ويدركون أيضا أنهم ربما يعجزون عن مجاراة العمال في هذا، لأن حزبهم يساند أصحاب المال والملكية الخاصة أكثر مما يهتم لظروف العمل والعمال. وعلى الرغم من هذا لن يستسلموا بسهولة أمام المعارضة في هذا الميدان أيضاً.
ثمة ميدان قديم جديد للمنافسة بين المحافظين والعمال هو الخروج من الاتحاد الأوروبي. يعرف العمال أن جونسون يقاتل بشراسة في مفاوضات ما بعد الخروج من أجل إتمام نصره في معركة بريكست التي وصلت به إلى رئاسة الوزراء بأكثرية برلمانية مطلقة نهاية العام الماضي. يتتبعون بهدوء نتائج هذه المفاوضات التي تجرى عن بعد بسبب وباء كورونا، ويستعدون لقلب الطاولة على رئيس الوزراء إذا ما فشلت ورفض جونسون تمديد المرحلة الانتقالية لعام آخر.
لن يسمح العمال بخروج دون اتفاق من الاتحاد الأوروبي. ليس هم فقط وإنما معهم أحزاب إيرلندا الشمالية والحزب القومي الاسكتلندي المسيطر على برلمان اسكتلندا. ستكون النتائج كارثية إن وقع ما يسمى بالطلاق الصلب بين لندن وبروكسل.
وخاصة في ظل التداعيات المهولة لوباء كورونا على الاقتصاد البريطاني والعالمي عموما. قد تنقسم المملكة المتحدة فعلا، وتحسم معركة استقلال الاسكتلنديين لصالح أدنبرة بسهولة إذا ما قرر جونسون الخروج دون اتفاق.
يبدو العمال وكأنهم يقفون على الحياد في المنافسة على السيادة التي تزايدت مؤخرا بين الأقاليم الأربعة للمملكة المتحدة بسبب وباء كورونا. ولكن الحقيقة أنهم يلقون باللوم فيها على رئيس الوزراء وخططه غير الواضحة في مواجه الجائحة. فالخطط الضبابية أو منقوصة الإجابات كما يصفها زعيم حزب العمال، هي التي تخلق تباينا في مواقف أصحاب القرار في أقاليم المملكة.
بالنسبة لرئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستيرجن التباين والخلاف مع لندن بدأ بسبب بريكست ولن ينته إلا باستقلال الإقليم عن بريطانيا. هذه الحقيقة تفرض على جونسون أن يخوض منافسته على سيادة البلاد بحذر وذكاء شديدين. ولكن في ترتيب الأولويات تبدو المعركة الأكثر إلحاحاً بالنسبة للمحافظين اليوم هي مع وباء كورونا، ولا نبالغ بالقول إن النصر فيها هو مفتاح الحسم في جميع ميادين المنافسة التي يخوضونها مع خصومهم داخل وخارج البلاد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة