يمكن اعتبار كورونا هي مرحلة إعلان نتائج الحكم على نموذجين في قيادة العالم
مؤخرا قال عالم الاجتماع الفرنسي "آلان تورين" في تعليقه على تداعيات فيروس كورونا وما أحدثه في العالم، وكيف تعامل العالم معه، حكومات وزعماء وطبقات اجتماعية متنوعة، "إننا نعيش في مرحلة غياب الفاعلين، غياب المعنى، غياب التفكير".
هو يشير في تفسيره لانعدام الفاعلين بأنه حتى الدول الأكثر قوة رضخت وأعلنت عجزها في هذه الأزمة.
كلام "الآن تورين" دفعني الحقيقة لأخذ الموضوع إلى زاوية أخرى تخالف ما يقوله الرجل.
يمكن اعتبار كورونا مرحلة إعلان نتائج الحكم على نموذجين في قيادة العالم، يعني كورونا مرحلة إعلان نتائج وليس مرحلة اختبار كما يدعي البعض وهذا ما أميل إليه
فإن هذا الزمن الذي نعيشه على وطأة أزمة "كورونا" صحيح هو زمن غياب الفاعلين، لأنه لا يدعي شخص أو زعيم دولة أو مؤسسة أو أي كيان أو حتى اتحاد أو منظمة عالمية ولا حتى الأمم المتحدة بكامل تعدادها الدولي ومؤسساتها بما فيها منظمة الصحة العالمية لا يمكن أن يدعي أحد أنه هو القادر على المواجهة.
إذا يمكن الإشارة هنا إلى دلالة من دلالات زمن كورونا وهي "غياب الفاعلين" بلغة "تورين" والإقرار بالعجز، والرضوخ والتسليم بالهزيمة.
وهنا أنتقل إلى فكرة أخرى وهي توصيف المعركة، وأبدأ من تحديد أطرافها، هل هي حرب؟
آلان تورين يعترض على أنها حرب وهذا منطقي جدا، لأن الحروب تكون بين قوتين متشابهتين ولها أدواتها التي هي أسلحة وعتاد.
لكن مع كورونا لا يمكن أن تكون حربا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، وإنما صراع يتخطى درجاته ليصل إلى أعلاها؛ إنه صراع وجودي يتوقف عليه وجود الإنسان أو المواطنين داخل حدود دولة إلى وجود بشري كامل.
فهو فعلا صراع بين خصم لا إنساني هو "كورونا" والإنسانية جمعاء المتمثلة في 8 مليارات إنسان وهم سكان الكرة الأرضية.
هذا الصراع يتماشى مع "الميثولوجيا الإسلامية" فيما يتعلق بقصة النمرود صاحب أشهر مناظرة دينية في التاريخ تلك التي جمعت بينه وبين سيدنا إبراهيم عليه السلام، إذ قال النمرود: "أنا أحيي وأميت"؛ وفسّر ذلك بقدرته على العفو عن رجل وإنزال عقوبة الموت برجل آخر؛ فالأول وهبه الحياة والثاني سلبه إياها من وجهة نظره، فاختار إبراهيم عليه السلام دليلا آخر للمناظرة وهو الشمس.
فقال للنمرود: "من سنن الله في الكون أن تطلُع الشمس من مشرقها فأتِ بها من المغرب"، هنالك أُسقط في يده وعجز عن الرد والكلام وأصر على الكفر والعصيان على الرغم من إقامة الدليل والحجة بالعقل والمنطق، وأعدّ جيوشه لقتال المؤمنين فسلَّط الله عليهم جيشا من البعوض غطى عين الشمس وأكلت أجسادهم ولحومهم ودخلت واحدة منها في أنف الملك الجبار سببت له الألم الشديد ولم تخرج حتى قضت عليه ومات بسببها، حتى إنه كان يضرب رأسه بالمطارق كي يخفف من حدة الألم المستمر.
إذن لو افترضنا أن العالم الذي بالغ في قوته وفي تجبره هو "النمرود"، وأن البعوضة التي دخلت في أنفه هي كورونا "يمكن أن نحدد أطراف المعركة بدقة شديدة". إنه صراع مختلف ليست له الضوابط التقليدية للصراع ولا معاييره، لكن في المحصلة لا يملك من يتابع الصراع إلا توليد الدلالات والأفكار وهنا أنتقل إلى مربع آخر من كلام البروفيسور "آلان تورين" وهو فكرة انعدام الأفكار وغياب المعنى.
وهنا أختلف تماما؛ فهذا الزمن هو زمن توليد الأفكار والمعاني أيضا.
صحيح قد لا تكون هناك أفكار للمواجهة أو ادعاء الانتصار على الفيروس أو لم تتحقق بعد ولكن هناك أفكار مهمة في قراءة التداعيات وهناك توليد معانٍ كثيرة تتعلق بالحكم على الكثير من الأنظمة والأيديولوجيات والأفكار.
أولى تلك الدلالات التي تتوالد من تصارع الأفكار، أن كل الأبنية الفكرية والأيديولوجية بدءا من الماركسية مرورا بالشيوعية والاشتراكية والليبرالية والرأسمالية وما يطلق عليه الحداثة وما بعد الحداثة، كلها أثبتت أنها غير قادرة على تحقيق أدنى متطلبات البقاء وهي حماية الإنسان وحماية وجوده.
وعلى مستوى البنيان السياسي العالمي فلا أمريكا أثبتت الأزمة أنها قادرة على حماية العالم الذي تصارعت كثيرا لتعلن أنها سيدته الأولى والقادرة على إدارته والسيطرة عليه ولا حتى نجحت في حماية نفسها ولا حماية إنسانها الأمريكي.
ولا حتى الاتحاد الأوروبي استطاع، فإيطاليا التي ضربها الفيروس حرقت علم الاتحاد الأوروبي، وألمانيا تعترض على مساعدة إيطاليا وغيرها فيما سمي بسندات كورونا، ورفعت شعار الانكفاء على الداخل ولا مساعدة للآخرين على حساب الاقتصاد الداخلي.
وبالتالي يمكن اعتبار كورونا مرحلة إعلان نتائج الحكم على نموذجين في قيادة العالم، يعني كورونا مرحلة إعلان نتائج وليس مرحلة اختبار كما يدعي البعض وهذا ما أميل إليه.
إعلان نتائج "500 عام من الزمن الغربي"، من حكم الغرب للعالم كله، فكل النظريات التي تحكم الآن هي غربية بدءا من نموذج الدولة والأنظمة السياسية حتى موديلات السيارات والمصطلحات واللغة، 500 عام من الاستعمار، مرورا بصراعها الداخلي وحروبها في حربين عالميتين وحروب دينية، وصولا إلى العصر الصناعي والحضارة.
المحصلة أنه نموذج غير قادر على حماية أهم وحدة في التكوين العالمي وهي الإنسان الغربي، عدد الموتى في إيطاليا، فرنسا، إسبانيا، يؤكد ذلك.
وهي بدت عاجزة عن تحقيق فكرة العلم التي روجت لها وادعت أنها قادرة على امتلاك دفته فليس هناك عالم غربي أو مؤسسة علمية نجحت في اختراع دواء أو مصل، ربما تنجح لكننا بصدد التقييم الثاني.
هناك إعلان نتيجة مرحلة أخرى تصل إلى قرنين من الزمان، مئتي عام من العهد الصناعي الغربي، عهد أنفق فيه الكثير، وصلنا الآن إلى أنه ليست لديه أجهزة تنفس، وهناك دول تمارس القرصنة لسرقة شحنات طبية وكمامات في الجو.
إذن كورونا كمرحلة إعلان نتيجة نصف قرن تقول: "المحصلة صفر".
صفر لخمسمئة عام من سيطرة الغرب.. وصفر لمئتي عام للثورة الصناعية الغربية.
في المحصلة نقول إن النماذج الغربية بالغت في السير نحو الأرباح الوهمية على حساب قيمة الإنسان ووجوده، فالاستثمارات في المجال الصحي كانت أقل من الاستثمارات في وسائل التواصل الاجتماعي مثلا، إن إعلاء قيمة التسوق في أمازون مثلا كان على حساب الاستثمار في منظومة القيم وإعلانها أو منظومة العلم الذي يحمي الإنسان وليس العلم الذي يسخر الإنسان.
إن الدولة الغربية بمفهومها القديم ستتحول إلى نقيضها تماما، تتحول من دولة سلطوية إلى دولة خدمية، وسيكون القادر على إقناع المواطن الغربي هو من يملك مشروعا خدميا صحيا وليس من يملك سياسة أو سلاحا.
إن النظام القادم الذي سيحكم العالم سيكون نظاما عالميا إنسانيا في الأساس حتى لو استند على السياسة في تنفيذ الهدف الخدمي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة