متحف كورونا يتطلب جمع المعلومات عن هذه الأزمة، وعن أطول حجر صحيّ في التاريخ، وما تمخّض عنها من قصص وحكايات
دأبت البشريّة على أرشفة ذاكرتها عبر الأوبئة والأمراض باعتبارها عملاً توثيقيّاً من أجل الاستفادة منه في المستقبل.
وهذا ما يجعلنا نفكّر بضرورة إنشاء متحف يحفظ ذكرى هذا الوباء الذي مرّ بنا أيّ "ذاكرة كورونا" وتداعياتها الفردية والاجتماعية، من أجل أن تتذكّره أجيال المستقبل على مدى العصور التالية.
وهذا يتطلّب جمع المعلومات عن هذه الأزمة، وعن أطول حجر صحيّ في التاريخ، وما تمخّض عنها من قصص وحكايات.
إنّ الأرشيف الوطنيّ لكلّ دولة معنيّ بهذا الموضوع عبر جمع وتصنيف وحفظ الشهادات والوثائق عن هذه الفترة الاستثنائية التي فتحت أعيننا على وقائع جديدة، منها أنّه همّش قضية القوميات التي تشظّت في الألفية الثالثة، وكانت نتيجتها الحروب والصراعات والضحايا.
أثبت وباء كورنا أنّ البشرية واحدة، لا تقبل التجزئة والتقسيم والتصنيف، في مواجهة الأخطار، ومسألة تبادل المعلومات باتت جوهرية في إثبات تحقيق الأمم لوجودها بعيداً عن القوميات والإثنيات والبدائيات بل في صميم توحيد العالم في مواجهة مصيره.
يتمّ استقبال الشهادات والقصص والصور والحكايات ومقاطع الفيديو التي تؤرّخ تداعيات هذا الوباء، وحفظها في الأرشيف للأجيال المستقبلية.
إنّ مهنة "الأثنوغرافيّ" أي الدراسة المنهجية للناس والثقافات تظهر الآن بشكل جليّ في هذه الأزمة، إذ يقع على عاتقها تسجيل ما شعرت به كلّ أمّة من الأمم، وكيف عبّرت عن ردود أفعالها تجاه هذا الوباء، واختلاطه بتراثها وعمقها، وسوف تظلّ البشرية تتذكّر اسم كوفيد والرقم 19 الذي دخل في عقل البشر ويوميّاتهم، وسيدخل معجمهم شاؤوا أم أبوا.
مقترح هذا المتحف المستقبليّ، يشمل كلّ بلد على حدة، لأنّ لكلّ بلد خصوصياته الثقافية في الدفاع عن نفسه، ويتمّ ذلك من خلال جمع الملايين من الوثائق وحفظها، ليس الطبية والعلمية فقط بل العاطفية والانفعالية والذهنية، وانعكاسات آراء الناس في كلّ بلد.
يعمل متحف ذاكرة كورونا، ويتمّ استقبال الشهادات والقصص والصور والحكايات ومقاطع الفيديو التي تؤرّخ تداعيات هذا الوباء، وحفظها في الأرشيف للأجيال المستقبلية.
إنّها خدمات الأرشيف التي من واجبها أن تحثّ المواطنين، على مختلف تنوّعاتهم، أن يكتبوا انطباعاتهم وأفكارهم في أثناء فترة الحجر الصحيّ، وما عانوه من فقدان الأحبّة والأهل والأقرباء والأعزّاء، وغير ذلك من شهادات ورسائل ومكالمات ووثائق أخرى، لها قيمة جوهريّة في صلة الإنسان بمصيره، وما يتهدّده من أمراض وأوبئة.
إنّ هذا ما لم يتمّ عمله مع الأمراض والأوبئة التي اجتاحت البشرية للأسف الشديد. لذلك لا بدّ من شهادات فوريّة، لأنّ الشخص الذي يتحدّث عن حدث سابق، يميل إلى التخييل بشأنه ربما.
لا بدّ للذاكرة من أن تؤدّي وظيفتها بكلّ تفاصيلها، حتى تصوير الشوارع الخالية ضمن هذا الأرشيف وخاصّة الأماكن الشهيرة التي كانت تكتظّ بالسكّان قبل غزو الوباء.
إنّ مثل هذه المبادرات مختمرة في صدور الناس، لكن يجب إخراجها وتنظيمها وأرشفتها وحفظها، لتصبح واقعاً حقيقيّاً. وتضحيات الطاقم الطبيّ يجب أن تمرّ من هذا المتحف.
ببساطة لأنّ وباء كورونا سيبقى جزءا من ذاكرتنا شئنا أم أبينا، وفترته العجفاء لن تفارق الذاكرة عمّا قريب مثلها مثل المجاعة، والجراد، والطاعون، والجفاف، والكوليرا، والملاريا، وغيرها من الأوبئة.
إنّ ذاكرة الشعوب تبقى، وتتواصل مع أجيال المستقبل عبر تعلّمنا توثيق السجلّ اليوميّ من السرديات والمرويات الشفاهية والكتابية، لأنّنا نشارك في صناعة التاريخ، ولا نترك الأمم الأخرى تحتكر هذه الذاكرة، وتعمل على تسجيلها من طرف واحد.
يجب ألّا تكون الأجهزة التقنيّة بديلاً عن الذاكرة الإنسانيّة الحيّة.
جميل أن نوثّق بالصوت والصورة والرقم، لكن الأجمل أن نوثّقها بانفعالاتنا وعواطفنا.
يعتمد الجيل الحاليّ كلّياً على الأجهزة التقنية، ولم يعد يتمتّع كما كنّا بموهبة الحفظ وتمرين الذاكرة.
إنّ خير مَنْ يسجّل يوميات كورونا هم الناس الذين يعيشون في خضمّها، ويواجهونها في حياتهم اليوميّة. لذا نحتاج إلى مصدر موثّق نعود إليه لتنشيط ذاكرتنا. هنا نراهن على أرشيفات الجهات التي قاومت هذا الوباء من صانعي الأفلام والبرامج الوثائقية، لتكون في متناول أجيال المستقبل، إذ لا تكفي تسجيلات وسائل الإعلام والمعطيات والأرقام.
تعلّمنا الكثير من هذا الوباء من عبر ودروس في نقاط مختزلة:
العالم قرية صغيرة، وقد اجتاز الوباء القوميات والجغرافيا والثقافات، ووضعها في جحيم واحدة: مصير الإنسان. وأصبحت ثورة الاتصالات دليلاً على كشف الحقائق.
إنّ هذا الوباء تحوّل إلى امتحان للشعوب في مهاراتها ومعارفها وقدراتها، الصين مثالاً في التعامل مع هذه الأزمة، وكشف لنا هذا الوباء عدداً من الاختلالات منها: المنظومات الصحيّة لمعظم دول العالم في تعاملها مع كبار السنّ، والمشرّدين، والسجناء، والمهاجرين والمحرومين من الضمان الصحيّ، وصناعة القرار أصبحت تخضع لآلية الأرباح.
في واقع الأمر نحن "سواسية" مثل أسنان المشط أمام وباء كورونا الذي علّمنا تعزيز روح التضامن، والتخفيف من التداعيات الاجتماعية والنفسيّة.
العالم سوف يتغيّر حتماً، وستظهر ثقافة ما بعد كورونا، بمعاييرها الإنسانية التي افتقدناها عبر العصور بعيداً عن الفردانيّة والأنانيّة.
لذلك نحن أمام تسجيل ذاكرتنا وانفعالاتنا وعواطفنا وأحاسيسنا إزاء هذا الوباء، ولا شيء قابل للديمومة، مثل تأسيس متحف لذاكرة كورونا، كما أقترحه، أي أن يكون مكاناً لحفظ جميع تداعيات هذا الوباء على الصعيد الفرديّ والاجتماعيّ، حيث تلتحم الذاكرة الفرديّة بالذاكرة الجماعيّة، وما النهر الكبير سوى جداول صغيرة تصبّ فيه، وتشكّله وتوجّه مجراه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة