هذا الوباء يجدد مرة أخرى في عصرنا المواجهة الأزلية بين الفكر الديني والفكر العلماني ويعرّي الأحزاب السياسية المتحكمة التي تروج للأوهام.
في قرية من قرى جنوب العراق، ظهر سيد أو إمام يدعي الكرامات كان يعالج المصابين بالإنفلونزا من أهل القرية بـ"التفلة" أي بالبصاق عليه، حتى يُشفى، وحلت كارثة كورونا وإذا به يستخدم العلاج السحري نفسه، فنشر المرض بين هؤلاء المساكين الذين استنجدوا بعلاجه، وكان هو مصاب بكورونا وعائلته.
وسارعت الشرطة في الحضور إلى القرية، والمناداة بمكبرات الصوت على الأشخاض الذين بصق عليهم السيد أنهم من المصابين بكورونا ويجب حجرهم ومعالجتهم.
مسيرة البشرية أثبتت أن العبور إلى الضفة الأخرى بأمان لا يتم إلا بمنطق العلم والواقعية والعقلانية لا بالخرافات والغيبيات والأوهام التي ترسخها الأحزاب الدينية.
تجسد هذه الحالة عن مدى غرق الناس في الجهل والأمية والغيبيات، بحيث إنهم واصلوا الزيارة الجماعية إلى مرقد الإمام موسى الكاظم، أحد أئمة الشيعة، رغم انتشار وباء كورونا والتحذير منه. كما ظهرت أصوات تجهر بأن "فيروس الكورونا لا يصيب المؤمنين"، وتحث الناس على مواصلة ممارسة الشعائر الدينية، وفتح المراقد في النجف وكربلاء. وهؤلاء المساكين المغيبون والمستلبون يتحدون فيروس كورونا، مستعينين بالأوهام والغيبيات، دون الاكتراث بالنصائح العلمية والطبية.
تعكس هذه الظاهرة الجدل القائم بين العلم والإيمان، وبين التدين الأعمى والتدين العقلاني، فما أشبه اليوم بالبارحة، عندما انتشر مرض الطاعون في بغداد عام 1831، وطلب الوالي المتنور داود باشا، الذي أراد تطويق الطاعون من القنصلية البريطانية إعداد خطط للحجر الصحي، واجه فقهاء الدين آنذاك "فرمانه" السلطاني بالرفض واعتباره ضد الشريعة الإسلامية، على أساس أن الطاعون قدر إلهي يصيب الكفار ولا يصيب المؤمنين.
ومات بالطاعون أعداد هائلة في الأحياء الإسلامية، بينما نجت أحياء الطوائف الأخرى التي التزمت بالحجر الصحي. وقد هرب القنصل البريطاني آنذاك مع أفراد قنصليته إلى البصرة بالمراكب النهرية للنجاة من الطاعون، وحتى الوالي نفسه هرب إلى ضواحي بغداد لإنقاذ نفسه وحاشيته من الطاعون. بينما لم يقف هؤلاء الفقهاء ضد دخول القوافل التجارية القادمة من تبريز إلى بغداد، وهي التي نقلت الطاعون كما حصل في الوقت الحاضر مع عدم إغلاق الحدود مع إيران في الأيام الأولى لانتشار وباء كورونا.
ويجدد هذا الوباء مرة أخرى في عصرنا المواجهة الأزلية بين الفكر الديني والفكر العلماني، ويعرّى الأحزاب السياسية المتحكمة التي تروج للأوهام والغيبيات والخرافات من أجل ترسيخ سلطتها ونفوذها واستئثارها في بلد يفتقر إلى أبسط المتطلبات الصحية والطبية، رغم أنه من أكبر مصدري النفط في العالم.
ففي الوقت الذي تعمل فيه مختبرات العالم على إيجاد علاج لهذا الوباء الخطير، يخرج علينا ما يُعرف برئيس "مركز طب المعصومين" في مدينة قُم الإيرانية، الشيخ شهريار شريفي، مدعياً أنه وجد العلاج لهذا الوباء، إلا أن الفضيحة كانت بوفاته هو نفسه من مرض كورونا.
ومن إيران إلى العراق، تتكرر المأساة، فهناك مَن يدعي أنه وجد العلاج من "الحرمل"، في حين أن الحرمل مجرد بخور هندي لبث الروائح الطيبة لا أكثر. وهكذا تقوم الأحزاب الدينية المتحكمة في المشهد السياسي العراقي مدعومة بالمراجع الدينية الراعية، بتشجيع هذه الممارسات كالتشافي عند قبور الأئمة بالنذور والأدعية، وهي طريقة تفكير رسّخته الطبقة السياسية منذ 2003.
وجاء وباء كورونا ليكشف عن هذا الخلل في التفكير الذي يعمل على بثه إلى الطبقات الشعبية المحرومة من أبسط مقومات الحياة، وتغرقه في الأوهام والغيبيات بدلاً من إيجاد الحلول الواقعية. وفي أول امتحان سقطت هذه الأوهام، عندما أصبح وباء كورونا ساحة المواجهة بين خندقين، الفكر الغيبي والفكر العلمي، في بلد يُفترض أنه وارث أعظم الحضارات وأكثرها أصالة وعمقاً.
وهذا التفكير لا يقتصر على العراق بل يمتد إلى التفكير لبلدان أخرى مثل إيران وغيرها من النظم التي تسعى إلى التبرير وكم الأفوه من أجل ديمومة سلطتها ومصالحها. لكن مسيرة البشرية أثبتت أن العبور إلى الضفة الأخرى بأمان لا يتم إلا بمنطق العلم والواقعية والعقلانية لا بالخرافات والغيبيات والأوهام التي ترسخها الأحزاب الدينية في استغلال الغرائز الأولية لإخافتهم من المستقبل.
وبدلاً من فتح المراكز العلمية وتخصيص موارد مالية للأبحاث، تنفق الأحزاب الدينية المهيمنة هذه الموارد في تمويل المليشيات ودعم إيران وإشاعة الفكر الطائفي البغيض. وقد عرّت كورونا هذه الأحزاب الدينية التي لم تنفق من المال العام المسروق، للحد من انتشار وباء الكورونا، وحتى تعقيم خيام النازحين ( 110 آلاف نازح عراقي) ضد كورونا، دفعتها الأمم المتحدة "اليونامي" بحسنة دولارية مخجلة.
إن الدولة العراقية، على هشاشتها وضعفها، حري بها أن تقف ضد الأفكار الغيبية، وتنور الشعب بالتفكير العلمي، ودعم المؤسسات العلمية والإنفاق عليها، وإيقاف التيارات الشعبوية التي تشجع الغيبيات والخرافات والأوهام البعيدة عن منطق العلم، وعن روح الإسلام الحقيقي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة