أطباء بين أخلاقيات المهنة وحرب كورونا.. "ننقذ من لديه فرصة للنجاة"
تفشي وباء كورونا وخروجه عن السيطرة بتجاوزه طاقة الاستيعاب بأقسام الإنعاش لم يترك للأطباء من حلول سوى فرز المرضى على نطاق واسع، وهو ما يطلق عليه طب الحروب
الوضع في بعض البلدان التي دخلت مرحلة متقدمة من تفشي وباء كورونا، بات شبيها بما يحدث في ساحات الحروب، حيث يترك الجنود المصابون بجروح خطيرة للاعتقاد بأنهم ميتون لا محالة، فيما يسعفون أصحاب الإصابات الأقل خطورة.
السيناريو نفسه تضطر العديد من الطواقم الطبية، سواء في إيطاليا، بؤرة الوباء في أوروبا والعالم، أو إسبانيا وفرنسا، إلى تطبيقه وإن كان بدرجات متفاوتة، معتبرين أنهم في مرحلة "طب الحروب".
تفشي الوباء وخروجه عن السيطرة بتجاوزه طاقة الاستيعاب بأقسام الإنعاش، لم يترك للأطباء من حلول سوى "فرز" المرضى على نطاق واسع، ما يثير مسائل أخلاقية.
حصيلة هائلة بدأ العالم يسجلها بوفاة أكثر من 12 ألفا وإصابة 300 ألف حول العالم بحسب الأرقام الرسمية، جعلت المرضى يتكدسون بأقسام الإنعاش طلبا للتنفس الصناعي، لكن في هذه الظروف من يستحق الاستفادة من الجهاز أكثر؟
أطباء الإنعاش يؤكدون أن عملية الفرز ليست جديدة في مهنتهم، بل إن هناك توجيهات للممارسات الصائبة منذ وقت طويل.
وقال بيرتران جيديه، رئيس قسم العناية الفائقة والإنعاش في مستشفى "القديس أنطوان" بالعاصمة الفرنسية باريس: "نحن لا ننطلق من الصفر، إنها قرارات نتخذها كل يوم".
وأوضح جيديه، في تصريحات إعلامية، أن هناك 3 معايير تقييمية تُطبّق أيضاً على المصابين بفيروس كورونا المستجدّ لاتخاذ هذا القرار، وهي: رغبة المريض وحالته الصحية العامة وخطورة مرضه.
لكن لطالما شككت تقارير إعلامية في معيار "رغبة المريض" في ظل الظروف الصحية الطارئة التي يشهدها العالم، ذلك أن المصاب بالوباء لن يكون أمامه أي حل خصوصا عند بلوغه مرحلة متقدمة من المرض، سوى الحصول على التنفس الصناعي.
حاجة قصوى قد تختلف عن نظيرتها في الأوقات العادية، لأن الأزمات تفرض معايير مختلفة، وفق محللين يؤكدون أن المعيار الأخلاقي قد يغيّب لأسباب أخلاقية أيضا في مثل هذه الحالات، طالما أن الطاقم الطبي يتخذ إجراءات يرى أنها ستساعد في إنقاذ الحالة التي تمتلك الحظوظ الأوفر للنجاة.
وعن ذلك، قال جيديه: "نعم، سيكون علينا إعطاء أولوية لمرضى معينين، نأخذ بتعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نحن في حرب".
واضاف: "هذا الأمر اسمه فرز على غرار ما يحصل في ساحة المعركة، حيث نترك مصابين بجروح خطيرة لأننا نعتقد أنهم سيموتون".
الدكتور فيليب ديفوس، طبيب إنعاش في لييج ببلجيكا، أيد زميله قائلا: "في هذه اللحظة، نعطي الجهاز التنفسي إلى الشخص الذي لديه فرص نجاة أكبر".
نفاد الإمكانيات
ما تخشاه سلطات أغلب الدول التي تواجه الوباء هو نفاد إمكاناتها اللوجستية والبشرية في مراحل متقدمة من انتشار المرض، طالما أن تقدم المراحل سيعجل باللجوء إلى "طب الحروب".
لكن، وفي ظل سرعة انتشار الوباء، سواء لعدم امتثال المواطنين للحجر الصحي أو لأي أسباب أخرى، فإن الكثير من الدول دخلت بالفعل مرحلة "الفرز".
وبالنسبة للدكتور ديفوس، فإن الطواقم الطبية تحاول، وفق الوسائل المتاحة، ألا يكون الأمر أشبه بـ"سحب يا نصيب"، مشيراً إلى مجموعة من المعايير مثل عمر المصاب والأمراض التي يعاني منها أصلاً.
أما جيديه، فأوصى بضرورة "ألا يُعطى المرضى الذين يأتون الآن للمستشفيات الفرنسية الأولوية مقابل أولئك الذين سيصلون بعد أسبوع أو 15 يوماً، يجب عدم استنفاد كل الوسائل فوراً".
لكن في إيطاليا، يبدو الوضع في غاية التأزم، مع تكدس المرضى في المستشفيات، وعلى أبواب أقسام الطوارئ ينتظرون دورهم للحصول على أجهزة تنفس باتت نادرة، فيما يحاول الأطباء بذل أقصى جهودهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
كريستيان سالارولي؛ طبيب إنعاش بمستشفى في بيرجامو؛ المدينة التي تعتبر من بؤر الوباء بالبلد الأوروبي، قال: "نحاول إنقاذ فقط من لديهم فرصة".
وأضاف لصحيفة "كورييري ديلا سيرا" المحلية: "نقرر بحسب العمر والحالة الصحية، كما في كل حالات الحرب".
وضع دفع المؤسسة الإيطالية للتخدير والإنعاش والعناية الفائقة، مطلع مارس/آذار، إلى إعلان اعتزامها تحديد سنّ الدخول إلى أقسام العناية المركزة، في قرار فجر جدلا وقسم الآراء بين مؤيد باعتبار الأوضاع "حالة الحرب"، ورافض لأسباب أخلاقية.
الدكتور جيديه رفض من جهته الاستناد إلى عامل العمر لوحده، طالما أنه لا يمكن تعميم ذلك في كل الأحوال. وقال: "العمر وحده، لا".
وأشار إلى أنه أدخل إلى الإنعاش مصاباً بالوباء بحال خطرة يبلغ 85 عاماً، إلا أنه لا يعاني من أي أمراض سابقة، وكان لا يزال يعيش بشكل مستقلّ حتى الآن، فيما لن يكون هناك مكان في العناية لشخص أربعيني مصاب بالتليّف الكبدي في مرحلته الأخيرة، وهو لا يزال يحتسي المشروبات الكحولية.
غير أن خبيرا في أخلاقيات البيولوجيا رجح كفة "الفرز" في الأوضاع الحالية، مشيرا إلى أن "هناك أشخاصا يموتون كل يوم منذ عقود لأنه ليس بالإمكان زرع أعضاء لهم".
وأردف الخبير: "ليس لدينا ما يكفي من الأعضاء. النظام يقضي بأن نعطي العضو إلى الشخص الذي لديه فرصة أكبر للنجاة".
لكن بالنسبة للمصابين بكورونا المستجدّ، فإن القرار الأخير يظل بيد طبيب الإنعاش وطاقمه، فهم في النهاية من يحكمون على هذا المريض أو ذاك بفرصة للحياة أو بتر ما تبقى له من لحظات المعاناة، ما يشكل "عبئاً معنوياً ضخماً" يجب تحمّله، وفق الدكتور ديفوس.
وختم ديفوس: "نمارس الطبّ لنخفف عن الناس، وليس لاختيار من يمكن أن يعيش"، ليظل "الفرز" من المواضيع التي لطالما فجرت عبر التاريخ الكثير من جدل يبدو أنه سيتصاعد في ظل الأزمة الصحية العالمية الراهنة.