المليارات التي تم إنفاقها لبناء نظام مافياوي، كان من الطبيعي أن تدفع الاقتصاد إلى الإفلاس، والمجتمع إلى الانهيار.
من دون جريمة، كيف كنا سنعرف أنهم مجرمون؟
عندما جاء الأمريكيون لغزو العراق، وجد رعاع إيران وصعاليكها بين العراقيين من يعتقد أنهم ربما كانوا مصلحين. دوافع مختلفة، وإحباطات وطول حروب كان من الطبيعي أن تسفر عن نقمة، وأن توفر مبررا للقبول حتى بسقط المتاع ليتسنموا زمام إدارة الدولة ويقودوا الحيزوم.
لم تمض الأيام طويلا حتى كشفوا عن وجوه أقبح من القبح نفسه، فاقتسموا المناصب حصصا، وأنشأوا نظاما قائما على الفساد، ونشروا ثقافة صعلوكية تليق بطائفيتهم، وكان من الطبيعي أن ينحدر التعليم وتنهار الخدمات العامة، ويتم تدمير المصانع التي بيع بعضها كحديد الخردة، وسعوا إلى شراء الضمائر، وأشاعوا التمييز على أساس طائفي حتى أصبح الاقتتال بين الجار والجار أمرا بديهيا، ثم بدأوا بأعمال الانتقام على أساس طائفي أيضا، فدمروا وهجروا وقتلوا واعتقلوا وعذبوا حتى لم يسلم من أذاهم أحد.
ومثلما كانوا رعاعا فقد عثروا على رعاع مثلهم لكي يستخدموهم كمليشيات. وبدافع الجوع والفقر، أصبح كل شيء ممكنا، حتى تحول القتل والسرقة ونهب المال العام إلى قصة من قصص الحياة اليومية في العراق الجديد.
ولكن غياب الحقيقة ما كان ليستمر إلى الأبد.
المليارات التي تم إنفاقها لبناء نظام مافياوي، كان من الطبيعي أن تدفع الاقتصاد إلى الإفلاس، والمجتمع إلى الانهيار، والتعليم إلى الانحطاط، وظل النفط يجري إنما لتمويل أركان العصابة ومليشياتها، ولم يكن ثمة نقص في التوريات الطائفية التي تبرر كل أنماط الجريمة، وتلقي بها على ظهر "مرجع" فقهي ينافق في الدين، نفاقه في التاريخ، ويحرص على تزييف أبسط الحقائق فيه.
المليارات التي تم إنفاقها لبناء نظام مافياوي، كان من الطبيعي أن تدفع الاقتصاد إلى الإفلاس، والمجتمع إلى الانهيار، وظل النفط يجري إنما لتمويل أركان العصابة ومليشياتها.
ما يهم، هو أنهم ظلوا يسعون إلى بث الشقاق من أجل أن يجدوا في شقوقه ما يعتاشون به أو عليه. ولا يقولون إنهم مسلمون إلا من باب تلك الشقوق.
ومثلما تسفر الفضيحة عن أختها، وينضح الإناء ما فيه، فقد نضح العفن حتى بلغ أعلى العمائم، وسادت الجريمة، وتحولت البلاد كلها إلى مستنقع لا تعرف أيها جزء منه أفسد من غيره.
وفي غضون 17 عاما من الفوضى والفشل الشامل، نهبوا ليس مليارا أو اثنين أو حتى عشرة، بل مئات المليارات، وعجزت حكوماتهم كلها عن توفير أبسط الخدمات، بما فيها الماء الصالح، والكهرباء والدواء، ذلك أن أهل النهب ظلوا ينهبون، وكلما نهبوا أكثر ازدادوا طمعا وشراهة.
وما كان للفساد أن يبني اقتصادا ولا مجتمعا، فالمال الذي لا يدور في بيئته دورة إنتاج وبناء وتطوير، ما كان بوسعه إلا أن يكون كما الزبد، وهذا ما كان في بلاد لا تجد اليوم ما يكفي لستر عورة نظامها نفسه، ولا حتى رواتب مليشياته وموظفيه.
هل يمكن لأحد أن يُصدق أن بلادا تم نهب 800 مليار دولار من ثرواتها، تعيش على الحال الذي يعيش به العراقيون اليوم؟ هل هذا معقول؟
ولكن اللامعقول هو بالضبط ما ظل يجري تحت سلطة وكلاء الولي الفقيه، لأنهم تحديدا وحصرا، إنما كانوا يخدمون تصوره للطريقة التي يجب أن يُدار بها العراق، ليكون مستنقعا للدمار والنهب، ولغلمانه أن يرتعوا به ما طاب لهم الهوى، طالما ظلوا له مخلصين.
هذا هو عراق الطائفيين، إنه عراق المرجعيات التي وفرت الغطاء لأعتى مستويات الجريمة، وأعنف الأحقاد، وأقذر المسالك في إدارة المجتمع والدولة، حتى أسوأ المافيات في الدنيا كان بوسعها أن تصنع نظاما أقل دموية وعنفا وأكثر نجاحا، إلا أنهم، بحكم طبيعتهم ذاتها، ما كان بوسعهم أن يفعلوا أي شيء آخر، وها هم ينفضحون، من أعلى عمامة فيهم إلى أسفل السافلين، فهل كان بوسع الذين خُدعوا أن يعرفوا المجرمين من دون يروا الجريمة؟
الحق أن ذلك كان ضروريا، فالشر لا يُعرف إلا عندما يكشف عن نفسه، وإيران الولي الفقيه ما كانت لتبدو كنظام صانع للانحطاط، لو لم تستعن بسقط متاع من هذا النمط الرديء.
العراقيون، جلهم على الأقل، يعرفون الآن أن الصعلوكيات الطائفية ما كان بوسعها أن تنتج شيئا آخر، والإناء ما كان بوسعه إلا أن ينضح بما فيه، ولو جاز للتغيير أن يتم، فإنه لن يتم، حقيقة وفعلا، من دون أن يجري اقتلاعهم، على طول المسافة من كربلاء إلى قم، وأن تُلقى طائفيتهم إلى جهنم، بكل ما كان فيها، وبكل ما كانوا به يتسترون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة