ملف المختطفين والمغيبين أحد أبرز الملفات الحقوقية في العراق التي لم تلق الاستجابة الحكومية اللازمة على مدار السنوات الماضية.
ضاق العراقيون بمرارة حكاياتهم عن أبنائهم المختفين والمغيبين في كهوف السجون التي تديرها المليشيات في أماكن سرية من جغرافية العراق، فلم يعد المواطن العراقي آمنًا على خروجه من البيت وليس متأكدًا من عودته إلى البيت ثانية، فشبح أية سيارة تقف بجواره، تُشعره بالرعب والهلع.
أصبح الاختفاء القسري روتينًا يوميًا اعتاد عليه العراقيون، وهم يدورون في حلقة مفرغة، في دوامة لا هوادة فيها، يراودهم الأمل بأن يعيشوا مثلما يعيش المواطنون الآخرون في البلدان العربية الأخرى.
في هذه الأيام يتذكر المواطن العراقي ثورة 14 يوليو/ تموز 1958 التي علق بها كل آماله، بالتحرر والانعتاق، لكنها في حقيقة الأمر أحبطته وزادت من آلامه، كلما حلت ذكراها، لأنها جلبت الويلات عليه، وفتحت الباب على مصراعيه للانقلابات السياسية المتعاقبة التي فقد في ظلها العراقيون طعم الاستقرار والطمأنينة وراحة البال. عادة ما ينقطع الأمل بالعثور على المفقود أو المختفي، لأنه ببساطة يضيع بين 53 مليشيا موالية لإيران منتشرة في بغداد وعموم البلاد.
والدولة نفسها لا تستطيع مساعدة المواطن في ذلك، فالأجهزة الأمنية التي يُنفق عليها الملايين إذا لم نقل مليارات الدنانير لا حول لها ولا قوة، لأنها إذا تدخلت وسألت عن المفقودين أو المختفين، فإنها تتجاوز الخط الأحمر. لذلك سرعان ما يدّب اليأس في نفوس أهل وذوي المختفي أو المفقود، لأنه يصبح في البرزخ الآخر، في المنطقة الرمادية ما بين الحياة والموت، ولا أحد يعلم بمصيره في السجون السرية.
ملف المختطفين والمغيبين أحد أبرز الملفات الحقوقية في العراق التي لم تلق الاستجابة الحكومية اللازمة على مدار السنوات الماضية، فالعدد ليس هينًا، إذ يبلغ بنحو 12 ألف شخص، مصيرهم مجهول.
ولا تكتفي هذه المليشيات بتغييب الضحايا واخفائهم قسريًا بل تقوم في ابتكار أساليب لإرهاب العراقيين وذلك بإرسال صور المختطفين لديها إلى عائلاتهم وهم تحت التعذيب والدماء تنزف منهم.
كيف ولدت هذه البربرية وترعرت في نفوس المتوحشين؟ في النظام السابق، كان المواطن الذي يختفي، يعرف الجميع مكانه، وهو مديرية الأمن العامة، أما الآن، فلا يعرف أهل المختفي قسريًا أين هو، ولا يدرون لمن يتوجهون، حتى الأجهزة الأمنية الحكومية لا تعرف شيئًا عن مكان تواجده.
فلا داعي لمراجعة الشرطة المحلية أو المحكمة أو مكتب الاستخبارات لأن إجابتهم واضحة بأنهم لا يملكون أي معلومات، بل أن هذه الأجهزة الأمنية فيها جزء كبير ومتنفذ من ضباط الدمج، أي من أفراد المليشيات الذين مُنحوا الرتب العسكرية العشوائية، من دون استحقاق أو مسلك مهني، وأصبحوا في عداد هذه الأجهزة الرسمية، فاختلط الحابل بالنابل.
وأصبح من العسير التفريق بين الأجهزة الحكومية الرسمية والمليشيات المسلحة المنفلة وخاصة في طريقة التعامل معها، وتقدير عقليتها وسلوكها التي لا تخضع للمعايير المهنية والاحترافية، وفي ظل انعدام قوانين تُحاسب هذه المليشيات التي تعبث بحياة العراقيين بدون أي وازع أخلاقي أو ديني أو اجتماعي.
عادة ما يتم اختطاف هؤلاء الضحايا من المنازل أو الشوارع أو الأماكن العامة في أكبر انتهاك لحقوق الإنسان الذي سنته الأمم المتحدة أو القانون الدولي الذي يحرّم الاختفاء القسري، ويُفترض أن يتلقى جميع المشتبه فيهم، بمن فيهم المرتبطون بالإرهاب، محاكمة عادلة ضمن دولة القانون المفترضة.
على مدى أكثر من عقد ونصف، يَعدُ رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي، حصر الأسلحة بيد الدولة وإنهاء حالة الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والسجون السرية، ولكن لا شيء من تلك الوعود ترى النور رغم أن العراقيين استبشروا خيرًا بإعلان الكاظمي عن نيته في الكشف عن مصير المختطفين والمغيبين وعدادهم بالآلاف، ومحاكمة القتلة والمجرمين، ولا يزال قتلة المغدور غيلةً الخبير والمحلل هشام الهاشمي أحرارًا! ملف المختطفين والمغيبين أحد أبرز الملفات الحقوقية في العراق التي لم تلق الاستجابة الحكومية اللازمة على مدار السنوات الماضية، فالعدد ليس هينًا، إذ يبلغ بنحو 12 ألف شخص، مصيرهم مجهول.
حكومة الكاظمي تعهدت بالكشف عن تلك المصائر البشرية التي تنتظر وراء القضبان، إلا أن الخبراء والسياسيين العراقيين يشككون بقدرتها على ذلك، لأن هذه السجون السرّية تخضع لسلطة الحرس الثوري الايراني ومليشيات الحشد الشعبي التابعة لها، وهي لا تخضع لسلطة الحكومة حتى لو قيل العكس من ذلك.
على الرغم من الاحتجاجات الواسعة النطاق بالإفراج عن هؤلاء الضحايا المحتجزين بشكل تعسفي، ظلت الجهات المسؤولة صامتة، ولم تحرك ساكنًا، وتحولت القضية إلى دراما اجتماعية يعاني منها العراقيون في ظل بربرية المليشيات وتغولها.
ولا تزال جرائم الاختفاء القسري لآلاف المواطنين العراقيين مستمرًا إلى حد هذه اللحظة، ما يوقظ الإحساس بالاستياء والعجز والغضب والاختلال لأن الجريمة مستمرة والعقاب غائب. ولم تكتف المليشيات بإخفاء البسطاء من الناس، بل طالت النخبة الثقافية ورموزها من كتّاب وفنانين ومفكرين وخبراء وأطباء وعلماء وأدباء وأصحاب مكتبات، وهي النخبة التي يجدر بأي بلد أن يفخر بها.
إن جوهر المليشيات تتكون من نظام سياسي تختلط فيه التوتاليتارية والبربرية والتدين المزيف والتطرف والارهاب، خلطة لم يشهدها العراق في تاريخه أبدًا. إن استمرار الاختفاء القسري من شأنه أن يربك الوضع الأمني ويعيد الصراع الطائفي مجددًا. كم يحتاج المجتمع العراقي كي يتعافى من أعمال العنف والارهاب؟ التاريخ العراقي الحديث مُتخم بأعمال العنف والانقلابات والاعدامات والحروب التي لم تفض إلى الاستقرار كما حصل مع الثورة الفرنسية رغم تباعد المقارنة والتشبيه.
وهذا يعود إلى أن المليشيات لا تعترف بقوانين الأمم المتحدة بما يخص بنود تحريم الاختفاء القسري، ولا تلتزم به، ولا تعترف بمنظمة هيومن رايتس ووتش في العراق حيث تسعى إلى توثيق سجلات بالاختفاء القسري، وتحاول الحصول على معلومات عن مكان المختطفين والمغيبين والمختفين من دون جدوى. في نهاية المطاف، أصبح الاختفاء القسري حكاية العراقيين التي ينسجون بها مرارتهم القاسية ليل نهار في ظل انعدام الطمأنينة والاستقرار والأمان. مصير آلاف الضحايا ما زال مجهولاً ويدق جرس الخطر لأرواحنا جميعًا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة