ليس من السهل أبداً معاداة الصين وأنت في خضم استقلال اقتصادي عن الاتحاد الأوروبي، وتبحث لنفسك عن شركاء جدد يعوضون خسارتك.
لا يخشى البريطانيون العقوبات الأمريكية على شركة "هواوي" بقدر ما يخشون تسرب بياناتهم إلى الصين عبر الجيل الخامس من الإنترنت.
ولا تقلقهم الخسارة التي يمكن أن تلحق بهم بعد فك تعاقدهم مع الشركة الصينية، طالما أن هذا الإجراء سيقيهم خسارة اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة.
ربما يفسر ما سبق قرار لندن طرد "هواوي" من سوق الاتصالات البريطانية على المدى الطويل.
فالجيل الخامس من الإنترنت سرعان ما سيحل مكان سابقيه. ومن يحصل على حقوق تشغيله يستحوذ على حصة الأسد في قطاع الاتصالات والأجهزة الذكية دون منافسة تذكر إلى حين اكتشاف الجيل السادس.
ليس من السهل أبداً معاداة الصين وأنت في خضم استقلال اقتصادي عن الاتحاد الأوروبي، وتبحث لنفسك عن شركاء جدد يعوضون خسارتك في هذا الاستقلال.
كان باستطاعة بريطانيا أن تجد حلولاً للمخاوف التي أثارها المركز الوطني للأمن المعلوماتي بشأن "هواوي"، لو كانت الصين أكثر مرونة وانفتاحاً على اتفاقات واسعة مع المملكة المتحدة بعد طلاقها من الاتحاد الأوروبي.
ولكن يبدو أن بكين كانت أقل كرماً من واشنطن في وعود التعاون بعد "بريكست ".
ثمة صحف إنجليزية تعتقد أن بكين كانت أكثر سلمية من واشنطن في التعامل مع حكومة بوريس جونسون.
ولذلك اضطرت لندن للاستجابة إلى الضغوط الأمريكية ورفعت من سقف عدائها للصين. وتستشهد هذه الصحف بمطالبة الإعلام الصيني برد رسمي قاس على قرار بريطانيا حظر شركة "هواوي".
في الحقيقة لم تكن السلمية الصينية تجاه بريطانيا تعبر عن خوف من الصدام، وإنما كانت انعكاساً لحالة اللامواجهة التي تريدها لندن في التعامل مع بكين.
كانت لندن تنتقد وتندد وتستنكر أفعال الصين دون اتخاذ إجراءات تضر بمصالح الصين، إلى أن جاء قانون الأمن القومي الجديد في هونج كونج.
قبل هذا القانون كانت المشكلة الأوضح بين الطرفين هي مشاركة لندن في الحملة التي قادها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد بكين بسبب جائحة كورونا.
فبريطانيا اليوم تنتمي إلى مجموعة من الدول، تدين آلية تعامل الصين مع الوباء، وتتطلع إلى تعويض مالي لما لحق بها من خسائر بسبب تلك الآلية.
لا تكترث بكين كثيرا لهذه المجموعة لأن السجال بشأن أهدافها ربما يمتد لعقود، وليس بالضرورة أن يفضي إلى أي شيء يحلم به خصومها. لذلك يمكن القول إن الشعرة التي قصمت ظهر البعير بين بريطانيا والصين، هي قانون الأمن القومي الذي فرضه البرلمان الصيني على إقليم هونج كونج مؤخراً.
قانون هونج كونج نقل التوتر بين البلدين إلى حرب باردة اصطفت فيها بريطانيا إلى جانب الولايات المتحدة بوضوح أكبر.
ففرض الهيمنة الصينية على الإقليم ذاتي الإدارة بهذه الفجاجة، أغضب البريطانيين وخلق انقساماً داخل حزب المحافظين الحاكم بين معسكر معادٍ لبكين وآخر متمسك بصداقتها.
لندن اعتبرت القانون الصيني في هونج كونج ضربة مباشرة لها، لأنه يغير أوضاعاً متفق عليها بينها وبين بكين بشأن المستعمرة البريطانية سابقاً.
ولكي تقول إن الوضع في الإقليم لا يزال يعنيها عرضت على نحو ثلاثة ملايين من سكان هونج كونج، ولدوا قبل عام 1997، حق التقدم بطلب الجنسية البريطانية.
الخطوة البريطانية أثارت سخط الحزب الشيوعي الصيني. فتقدمت المملكة المتحدة على قائمة الأعداء بعدما كانت أفضل أصدقاء بكين في أوروبا.
ومنذ ذلك الحين تدحرجت كرة الثلج في التوتر بين البلدين. وتأجلت إلى أجل غير مسمى فرصة لندن بإبرام اتفاقية تجارة حرة مع بكين بعد تمام "بريكست" .
ولا نذيع سراً بالقول إن الصين لها تاريخ طويل بمعاداة البريطانيين والتضييق عليهم.
نقرأ في صفحاته على سبيل الذكر لا الحصر، مصادرة الاستثمارات البريطانية في الصين منتصف القرن الماضي. وإجبار الشركات البريطانية هناك على تحويل مبالغ كبيرة لضمان عودة آمنة للعمال البريطانيين إلى بلادهم.
في المحصلة قرار حظر شركة "هواوي" الذي اتخذته لندن مؤخرا، يقول إن المحافظين المعارضين للصين باتوا يفوقون أصدقاءها قوة داخل الحزب الحاكم.
ويقول أيضا إن المواجهة بين الطرفين باتت مرشحة للتصعيد، في وقت تعاني فيه بريطانيا ضغوطاً اقتصادية كبيرة قبيل تنفيذ الخروج من الاتحاد الأوروبي.
لقد اختار البريطانيون المعركة المفتوحة مع الصين. وانخرطوا في التجاذبات الدولية الساعية إلى تغيير خارطة القوى العالمية.
لم يكن مستغرباً انضمامهم إلى الولايات المتحدة، الحليف التاريخي والاستراتيجي، في هذه المعركة.
ولكن المستغرب هو فتح الجبهة في هذه المرحلة الحرجة في تاريخ المملكة المتحدة.
ليس من السهل أبداً معاداة الصين وأنت في خضم استقلال اقتصادي عن الاتحاد الأوروبي، وتبحث لنفسك عن شركاء جدد يعوضون خسارتك في هذا الاستقلال.
ربما يبدو الأمر تهوراً حقيقيا للوهلة الأولى. ولكن التاريخ الطويل للبريطانيين في السياسة الخارجية يقول إن الأمر يستحق التروي قبل توقع النتائج.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة