لقد برهن الواقع أنّ المحاصصة الطائفية مرض العصر، وهي لا تصنع غير التجزئة والتفرقة والخراب.
أثار كلام رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي: "بأننا نفتخر أن نكون من أحفاد جلجامش" الكثير من اللغط في أوساط الأحزاب والكتل العراقية، ومن ضمنها ردّة فعل جواد الطيباوي، الرجل الثاني في مليشيا عصائب أهل الحقّ، القائل: "إنّنا لسنا أحفاد جلجامش، ولا نفتخر بأن نكون من أحفاده". وهذا يعتبر إنكارا لكلّ حضارة العراق العريق، والمعروف أنّ جلجامش شخصية أسطورية في ملحمة البشرية الأولى التي جسّدت رحلة البحث عن الخلود.
هاذا الإنكار ليس عابرا، والطيباوي ليس فردا بل عقلية رائجة تتنكّر للعراق الذي نشأت فيه أعرق الحضارات السومرية والبابلية والأكدية. هناك آراء غريبة وعجيبة مثل دعوة المحلّل السياسي لحزب الدعوة د. عبد الأمير العبودي، إلى هدم ملوية سامراء، لأنّها ترمز لحكم الدولة العباسية.
العراق الحالي، بمكوّناته الحاكمة، يدير ظهره إلى حضارته القديمة، بما فيها تراثه العربي الإسلامي، ولا يكاد يذكرها إلّا نادرا، بينما تشكّل هذه الحضارات عامل توحيد لا عامل تفريق على مدى العصور.
حسب تقرير لوزارة الدفاع العراقية يوجد نحو 54 مليشيا، ويفوق عدد المسلحين عتبة الـ 120 ألف مقاتل، معظمهم من الطبقة الفقيرة غير المتعلّمة، تتراوح أعمارهم بين 16 و40 عاما. وتحوّل الحشد الشعبي إلى مليشيات نظامية ترعاها الحكومة العراقية، وتدرّبها، لكنّها بقيت تنظيمات مسلّحة منفصلة، لكلّ منها قياداتها وهيكلها التنظيمي الخاصّ.
لقد برهن الواقع أنّ المحاصصة الطائفية مرض العصر، وهي لا تصنع غير التجزئة والتفرقة والخراب.
لا شكّ أنّ الطائفية لا تجعل أيّ بلد قويّا وكبيرا، وذا شأن، بل تقلّص دوره، وتعود به القهقرى. لذلك نرى الآن حالة العراق أقرب إلى تشكيلات دويلات الطوائف منها إلى تشكيل الدولة العصرية الحديثة.
حتى الثروة النفطية التي نصّ عليها الدستور بأنّها ثروة وطنية، وملك لجميع العراقيين، تتصرّف بها الأطراف والأحزاب والكتل، وكأنّها ثروة خاصّة بها، لا دخل للحكومة المركزية بها. وهذه الأطراف لها ارتباطاتها الخارجية عربيّا ودوليّا، وبذلك تحول العراق إلى ساحة صراع إرادات دولية، وتصفية حسابات فيما بينها، دون اكتراث لمصالح العراق وشعبه.
تتجاهل هذه الأطراف عمدا تاريخ العراق العميق الذي يمتدّ آلاف السنين، تؤكّده كلّ الدلائل والشواخص التاريخية باعتباره إحدى أقدم الحضارات التي عرفها الإنسان، بينما المواقع الأثرية والتراثية ما تزال مهملة وغير مستغلّة سياحيّا وثقافيّا. فهناك عملية تغييب لوعي الناس وتجهيلهم وإلهائهم بعيدا عن حضارتهم وغنى تراثهم.
أين تكمن حاجة العراقيين في مرحلة التغيير الراهنة؟
لاسيما أنّ على مصطفى الكاظمي أن يضطلع بمهامّ كبيرة، وهي إعادة العراق إلى أصالته المفقودة، تلك التي ضاعت في خضمّ الصراعات الطائفية والأزمات، وبقي كلّ شيء مؤجّلا إلى إشعار آخر.
في ظلّ احتدام الأزمات، انبثقت تظاهرات تشرين الاحتجاجية، لكنّ جائحة كورونا قلّصت من دورها، لعدم تمكّنها من الاستمرار في ظلّ فرض حظر التجوال.
هذه مرحلة مهمّة ومناسبة سانحة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أن يعمل على تأسيس دولة مستقرّة وقويّة بعيدا عن المليشيات بعد أن عصفت بالعراق أزمات خانقة منذ نحو قرنٍ كاملٍ، أيْ منذ نشوء الدولة العراقية في التاريخ الحديث حتى هذه اللحظة. لم يهنأ العراقيون بولادة رجال دولة حقيقيين ومحنّكين، ينتشلون البلد من الفساد والفوضى.
إنّ هويّة العراق الحضارية تتكوّن من تراكم الحضارات عليها، فهي عنصر غنى وثراء كبيرين، وتزييفها وتهميشها لا يحقّق الهدف المنشود. لا يمكن ولادة الهويّة العراقية في نظام المحاصصة الطائفية، إذ لا بدّ من تجاوزها إلى هويّة عراقية وطنية جامعة.
لا شكّ أنّ نظام المكوّنات الذي جاء به الأمريكان هو الداء الأكبر الذي بُنيت عليه العملية السياسية برمّتها. إنّ الهويّة العراقية الجامعة هي الحلّ الأمثل لجميع الأزمات، فالمكوّنات كلّها تبقى ضعيفة لو عملت تحت شعارات ضيّقة، فلم يخرّب الهويّة العراقية سوى نظام المحاصصة الطائفية، إذ سعت إلى إرجاع بلاد الرافدين إلى عصور الظلام.
في أول ردّة فعل هي ثورة تشرين والاحتجاجات الشبابية التي طالبت، وما تزال بالهويّة العراقية بعيدا عن التقسيمات الطائفية، وهذا ما دفع العالم إلى التعاطف مع ثورتهم.
إنّ المحاصصة الطائفية مزّقت النسيج الاجتماعي للعراقيين بدعوى نظام المظلومية الذي لم يكن سوى غاية للوصول إلى السلطة ليس إلّا وكشفت عن الأزمة العميقة التي يعيشها النظام السياسي.
الآن أمام مصطفى الكاظمي فرصة تاريخية في إعادة بناء هذا النسيج القائم على الهويّة العراقية من جديد في إطار الدولة الحديثة، كما هو موجود في البلدان العربية. الهويّة العراقية قادرة على مواجهة المحاصصة الطائفية، والفساد، والنفوذ الإيرانيّ المهيمن. ودون ذلك يصبح العراق فريسة الضياع والتشتّت.
، يندرجُ في صلب الفكرة القائلة: إنّ نجاح أيّ مشروع كبير لا يتحقّق إلّا من خلال رؤية واقعية عن طبيعة وحجم الإشكاليّات التي تواجهها الدولة والأمّة.
العراق على مفترق طرق بين نداء جلجامش نحو الخلود والبناء، ونداء المليشيات إلى العزلة والانطواء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة