عمد الاحتلال إلى تهديم الدولة العراقية عبر سّن قانون المكونات، سيء الصيت الذي تم بموجبه تقسيم العراق إلى طوائف ومكونات
لطالما كتبنا هنا عن المليشيات العراقية، التي تدعمها إيران، ومدى خطورتها على كيان الدولة العراقية التي تأسست في 1921، ولم تتمكن من ترسيخ قواعدها القانونية والتشريعية نتيجة للانقلابات العسكرية والحروب وهيمنة الأحزاب، هذه الدولة لم تتأسسْ على دعائم حقيقية منذ بداياتها الأولى، وظلت نهباً لأهواء الحكّام وخضوعها لسلطة العشائر والقبائل.
ولم يتم استكمال الآمال العريضة ببناء المؤسسات الصلبة، رغم أن العراق وريثٌ حقيقي لرافدين أساسيين في مفهوم الدولة، أولها شرائع حمورابي المعروفة، وثانيها التراث العربي الإسلامي الممثل بتراث هارون الرشيد والأمين والمأمون.
لكنها وللأسف الشديد، ظلت غائبة عن عيون الحكّام والمشرعين، ولم تستفد الدولة العراقية الحديثة من هذا الإرث العظيم إلى أن جاء الاحتلال الأمريكي على آخر الآمال بتكوين أسس هذه الدولة وفرض سلطتها، وهدمت المؤسسة العسكرية فكانت بداية الفوضى الخلاقة في المصطلح الذي أطلقوه إبان الحرب.
حكومة الكاظمي طمأنت الأميركيين، لكن صراعهم مع إيران يخلط الأوراق ببعضها، لذا وجدت نفسها بين السندان الأمريكي والمطرقة الإيرانية.
فقد عمد الاحتلال إلى تهديم الدولة العراقية عبر سّن قانون المكونات، سيء الصيت الذي تم بموجبه تقسيم العراق إلى طوائف ومكونات، وبالتالي تسيير الحكم بموجب هذه الطبخة: رئيس الوزراء شيعي، ورئيس البرلمان سني، ورئيس الجمهورية كردي.
وهو ما يطلق عليه الرئاسات الثلاث التي شلّت أي تطور في تكوين الدولة العراقية، وظلت تراوح في مكانها، بل وتراجعت إلى الوراء.
وهذا الاستهلال يرتبط بحادثة مزارع الدورة التي تم خلالها اعتقال مليشيات حزب الله العراقي المدعوم إيرانيا من قبل قوات مكافحة الإرهاب الحكومية، التي كانت تخططُ لإطلاق الصواريخ على مقر الحكم، وتحديدا على السفارة الأمريكية، والتي استعرضت قوتها بدخولها بالسيارات والعتاد والأسلحة إلى المنطقة الخضراء، ووصلت الوقاحة بهذه المليشيات أن تجهر بولائها إلى إيران علانية، وتتحدى الحكومة والدولة، بل وتهدد بقتل رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة.
وقد تنفس العراقيون الصعداء وعلقوا آمالهم على الخلاص من هذه المليشيات، لكن آمالهم ذهبت أدراج الرياح عندما تم الإفراج عنها بأمر قضائي.
وما بين "الاعتقال والإفراج" تهاوت آمال الشارع العراقي بحكومة الكاظمي، وإمكانية استعادة هيبة الدولة العراقية وترسيخ القانون.
إن ما حصل في بغداد في الأيام الماضية فاق الخيال واجتاز الحدود الجغرافية والجيوسياسية.
وقد ذكّرت المليشيات، وعلى لسان قيس الخزعلي، قائد مليشيات أهل الحق، بأن مصطفى الكاظمي ليس سوى ثمرة للتوافقات السياسية ودوره لا يتعدى تشكيل الحكومة وإدارة الانتخابات وإنقاذ العراق من الأزمة الاقتصادية ليس أكثر.
أي أن رئيس الوزراء الجديد جاء من أجل إنقاذ البيت الشيعي من الانهيار، بعد أن اشتدت الصراعات فيه بعد رحيل عادل عبدالمهدي عن الحكومة بعد التظاهرات الاحتجاجية التي أطاحت به.
لا يختلف اثنان أن الأزمة السياسية التي يعاني منها العراق فريدةٌ من نوعها، وتختلف عن غيرها، على مر التاريخ، ولا تتشابه مع أزمات العالم الثالث. فوجود دولة المليشيات داخل الدولة الظاهرية المنتخبة أو المدعومة من قبل البرلمان، من شأنه أن يقوّض أي شرعية يمكن أن تتحلى بها.
وعلى أثر هذه التداعيات، عاش الشعب حالة من الترقّب وشّد الأعصاب، وحبس الأنفاس، وأحس الجميع أنهم يعيشون في شريعة الغاب ليس إلا إن مواجهة هذه الأزمة المستعصية تهدد بهدم أركان الدولة العراقية التي وعد الكاظمي بإعادة الهيبة لها وسط أزمات خانقة يعيشها الوضع العراقي: مثل جائحة كورونا، تغوّل الأحزاب السياسية وفسادها، الأزمة الاقتصادية، لجوء الحكومة للقروض، تعثر معاشات المتقاعدين، هيمنة الأحزاب على ورادات المعابر الحدودية، وتهريب النفط من كردستان بصورة غير شرعية، وغيرها من الأزمات التي تفتح أبواب العراق على جميع الاحتمالات.
ليس سهلاً أن يقوم الكاظمي بالإصلاح بعد سبعة عشر عاماً من التدمير والفساد، وهو ما يتطلب زمناً طويلاً للقيام بذلك، ويصطدم بعوائق وسدود عظيمة، لذلك لا يمكن أن تسير عجلة التطور في ظروف طبيعية، بعد أن انتشرت سلطات الدولة العميقة في جميع مفاصل الحياة، بل وتحولت إلى مؤسسات صلبة لا يمكن تفكيكها بسهولة إلا بقوة السلاح والعزيمة على تنظيف العراق منها.
ولا يزال العراق بعيداً عن تشكيل الدولة المعاصرة خاصة في غياب أي برنامج حكومي محدد وواضح. أما البرلمان فتتجاذبه الأحزاب ويعمل ضمن منطق التكتلات السياسية والانقسامات المذهبية، والهيمنة العشائرية، ولا يمت بصلة إلى معاناة الشارع العراقي وآماله.
إن الحالة الانتقالية أصبحت مزمنة في العراق، ولا تخضع لآليات موضوعية، ولا تمتلك الدولة أدوات التفاهم والاقناع لبسط نفوذها على كامل التراب العراقي بسبب قانون المحاصصة.
إن التخبط السياسي في العراق وصراع القوى والفساد المستشري في كافة مناحي الحياة، منح إيران المساحة الأكبر في ظل الأوضاع الاقتصادية والأمنية الهشّة، ومساندتها للمليشيات العراقية من أجل إضعاف الدولة العراقية، وتنفيذ أجندتها الخاصة.
إن حكومة الكاظمي طمأنت الأمريكيين، لكن صراعهم مع إيران يخلط الأوراق ببعضها، لذا وجدت نفسها بين السندان الأمريكي والمطرقة الإيرانية.
وما تقوم به المليشيات، المدعومة من إيران، ما هو إلا تغييب للدولة، واستهانة بها، وإضعافها، لتكون في قبضتها.
إن الدولة الهّشة خسارة للجميع، باعتبارها خياراً استراتيجياً ودستورياً، بدونه تعّم الفوضى، ويُصنّف العراق الآن من ضمن الدول الفاشلة بجميع المقاييس، فقد وصل الفقر في هذا البلد الغني بالبترول إلى نسبة 34 % من المجتمع العراقي حسب الاحصاءات الأخيرة، وميزانيته على وشك الإفلاس.
ويسعى نهج الكاظمي ضد المليشيات إلى إعادة الاعتبار إلى الدولة، وتأمين مواردها التي أصبحت نهباً للأحزاب السياسية، لأنها لا يمكن أن تقوم إلا برفض الهيمنة الإيرانية على الواقع العراقي.
إلى ماذا سيؤدي صراع الكاظمي مع المليشيات؟ وهل يتمكن من إرساء أسس الدولة العراقية التي لا تقوم لها قائمة إلا بالاستناد على المواطنة الحقيقية لا على المحاصصة الطائفية؟.
المشهد السياسي في غاية التعقيد، ولا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل القريب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة