قبل أيام من نهاية العام الأكثر "سوداوية" في حياة البشرية خلال الألفية الثالثة حتى الآن، يجدر التأمل فيما حمله وما سيورثه للسنة الجديدة.
صحيح أن كثيراً من أزمات المنطقة قد بدأت قبل 2020 بأشهر أو بأعوام، ولكن هذا العام ذيل بتوقيعه تغيرات جوهرية لن تنسى، وربما تؤسس لتحولات استراتيجية في سياسات دول المنطقة.
قبل كل شيء يمرر العام الحالي لخلفه جائحة كورونا التي لا تزال تستبد بشعوب العالم، وتهيمن على مفاصل حياتهم، هذا الوباء الذي تعتقد دراسات طبية أنه بدأ في 2019 ولكنه اكتشف سنة 2020، أما نهايته فلن تكون العام المقبل، حتى ولو ثبتت نجاعة اللقاحات التي توصل لها العلماء وبدأ توزيعها في العديد من دول المعمورة.
وكغيرها من بقاع الأرض تستمر معاناة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع الوباء، صحيح أن أعداد الإصابات فيها لم تصل للأرقام التي سجلتها أوروبا والولايات المتحدة، ولكن مستقبل دول المنطقة صحيا واقتصادياً قد يكون أكثر عرضة للانهيار إذا ما استمرت تداعيات الوباء عاما آخراً، وفشلت خطط احتوائها و لملمتها.
تداعيات كورونا ليست السبب الوحيد وراء أزمات دول المنطقة التي ستٌّرحل لعام 2021، هناك أسباب سبقت الوباء وتفاقمت نتيجته، فصعبت حل الأزمات الاقتصادية قبل السياسية، ويكفي أن نذكر بتحذير الأمم المتحدة من أن الجائحة ستلقي بأكثر من 14 مليون عربي في براثن الفقر قبل أن تبدأ بالانحسار ابتداءً من عام 2021.
ولأن الأزمات السياسية هي سبب رئيسي للمشكلات الاقتصادية في المنطقة، ويتراجع الأمل في خلاص شعوبها من الفساد ونهب المال العام وتراكم الديون السيادية وعجز الميزانيات، خاصة وأن الأزمات السياسية بأشكالها وعناوينها المختلفة، لا تزال قائمة في أسبابها، ومؤشرات حلحلتها تكاد لا تذكر، إن لم تكن معدومة أحياناً.
نذكر على سبيل المثال، الأزمة السورية التي راوحت مكانها خلال 2020، عام كامل في عمل ما يسمى باللجنة الدستورية دون أي أمل بانفراجة قريبة، والختام كان مع مصطلح "العدالة التصالحية" الذي استخدمه المبعوث الأممي جير بيرسون في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، وأعاد الأزمة برمتها إلى المربع الأول.
في لبنان لا تزال الأزمة هي ذاتها التي أشعلت البلاد نهاية العام الماضي، يضاف إليها انفجار مرفأ بيروت وما خلفه من تداعيات مهولة على حياة عشرات آلاف الأسر في العاصمة المنكوبة، لا تزال الليرة تغرق في انهيارها، والاقتصاد في غيبوبته، والحكومة في مأزقها، والبرلمان في شلله، والرئاسة في أوهامها.
استقال رئيس الوزراء سعد الحريري في أكتوبر 2019 بسبب فشل حكومته، وها هو اليوم عاجز عن تشكيل واحدة أخرى ذات جدوى، السبب هو ذاته الذي كان ولا زال يعطل كل الحلول السياسية والاقتصادية في الدولة، فلا خير يرجى من مليشيات تدين بالولاء للولي الفقيه، وتضع مكتسباتها فوق المصلحة الوطنية.
حال العراق يشبه حال لبنان كثيرا، فانتفاضة شعبه لم تثمر هي الأخرى، التفت عليها قوى سياسية ومليشيات تتبع للولي الفقيه، وحولتها لمعركة نفوذ بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، أضحت البلاد بقدرة قادر، ساحة حرب بين واشنطن وطهران، وهو ما جعل مسلسل الحكومات الفاشلة في بيروت يتكرر في بغداد.
وعلى غرار سوريا والعراق ولبنان، استمرت الأزمة اليمنية عاماً أخر لذات السبب المتمثل بالتدخل الإيراني، فالخمينيون يعتبرون صنعاء مثل دمشق وبيروت وبغداد تحت وصايتهم، وينظرون لوجودهم فيها كورقة تفاوض مع الأمريكيين والأوروبيين والعرب، مقابل ملفات مثل البرنامجين النووي والصاروخي لإيران.
في 2020 بقي التدخل الإيراني يتصدر أزمات المنطقة، ولكن نظيره التركي بات اليوم لا يقل خطورة، فالعثمانية الجديدة التي يقودها رجب طيب أردوغان ويبشر بها الإخوان المسلمون، كانت سببا في تفاقم أزمتي سوريا وليبيا، وخلقت مشكلات عدة في تونس وشرق المتوسط.
في حقيقة الأمر تجاوز التدخل التركي نظيره الإيراني في المنطقة جغرافياً وعدوانياً، ولكن دولاً مثل السعودية والإمارات ومصر كثفت جهودها لحشد موقف دولي ضده، مستفيدين في ذلك من نقمة الأوروبيين والأمريكيين على "السلطان"، ومغامراته التي قوضت تحالفات أنقرة مع الغرب، وأصابت عضويتها في الناتو بمقتل.
مسار السلام الذي انطلق بين دول المنطقة وإسرائيل، بدأ من الإمارات ثم لحقت به البحرين وبعدها كانت السودان والمغرب، ثمة دول أخرى تستعد للخطوة وتنتظر اللحظة المناسبة، ولكن السابقين واللاحقين، يؤكدون أن السلام ليس على حساب حل الدولتين في قضية فلسطين، أقدم أزمات التاريخ الحديث للشرق الأوسط.
لم ولن يكن اختبار العلاقة مع إسرائيل أمراً سهلا، ولن تتجلى إيجابياته وسلبياته بين ليلة وضحاها، ولكن المؤكد أن الخطوة قلبت موازين المنطقة بأسرها، والفائدة ظهرت سريعاً وتجلت في العديد من الاتفاقات التي أبرمتها دول السلام الأربع مع تل أبيب أو واشنطن، ولكن النتائج الاستراتيجية لن تظهر قبل العام المقبل.
في الحديث عن الآثار الإيجابية للعام الحالي، لابد أن السودانين سيتذكرون 2020 لسنوات طويلة، ففيه انقلبوا على حكم الإخوان، ووقعت اتفاقيات مصالحة مع الحركات المسلحة، كذلك رفع اسم بلدهم من قوائم الإرهاب، وبدأ عصر جديد من العلاقات مع العالم بعد عقود من العزلة التي جرها على البلاد الرئيس المعزول.
للجزائر أيضا تجربة جيدة مع 2020 على مستوى التغيير السياسي، كذلك حصل المغرب على اعتراف أمريكي بسيادته على صحرائه، وتسابقت الدول إلى فتح قنصليات لها هناك، فيما غرقت الجارة التونسية في سجالات سياسية خاضتها حركة النهضة مع رئيس الدولة، ورؤساء الحكومات وأحزاب مجلس نواب الشعب.
في المحصلة، لم تنته أزمات المنطقة في 2020، وبعضها يثير القلق إزاء احتمالات حلحلتها العام المقبل، المشكلة ليست في السنة "المشؤومة" كما يحلو للبعض تسميتها، وهي لا تتعلق بحكومات وشعوب المنطقة، بقدر ما ترتبط بالقوى العالمية، ففي عواصم الدول الكبرى يكمن القول الفصل، هناك تطول آجال الأزمات أو تولد حلول لها، لتصنف أعوامنا على ضوء ذلك بين حسنٍ ومعطاء أو كارثي ومشؤوم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة