ظلت مفاعيلُ الإعلان عن حصول تركيا – أردوغان على منظومة صواريخ اس 400 الروسية فترة زمنية طويلة، تتراوح بين ردود فعل أطلسية مشككة بحقيقة ولاء أردوغان لمنظمة حلف شمال الأطلسي، وبين انتقادات وتحذيرات أمريكية لا ترقى إلى مستوى الردع الفعلي.
وقد أدى ذلك النوسانُ لدى الطرفين إلى استمراء الجانب التركي للّعبة، متوهماً أن بإمكانه ممارسة هوايته بالتنقل على الحبلين، الروسي من جانب، والأمريكي الأطلسي من جانب آخر، وزاد في توهمه حتى وصل حدودَ التخيل بقدرته على الإفلات من عواقب هذا السلوك المتناقض على مسرحٍ دولي يتنازعه القطبان اللذان يدور أردوغان في فلكيهما وإن بدرجات متفاوتة.
اليوم بدأت رهاناته على أوهامه تترنح تحت وطأة مطرقتين، الأولى روسيةٌ كانت تتهيأ وتعمل بكثير من السلاسة والإغراء له إلى أن تمكنت من سحبه إلى زاوية من زواياها، والثانية أمريكية – أطلسية، كانت مشرعة فوق رأسه تنتظر اللحظة المناسبة لكي تهوي تدريجياً عليه على شكل عقوبات ؛ في مضامين المطرقة الأولى، الروسية، يمكن تلمّس ذلك من خلال مسار العلاقات بين تركيا – أردوغان وبين موسكو – بوتين حيث شهد تموجات عدة في بعض الساحات مثل سوريا، لكنه ظل أفقياً في ساحات ليبيا وشرق المتوسط وقاراباخ، والسبب يعود إلى أن الاستراتيجية الروسية تعاطت مع أردوغان من خلال أسلوبين من التكتيك، الأول تجنب الاستفزاز والمواجهة المباشرة معه على الصعيدين الميداني والسياسي؛ ومن خلال ذلك يمكنها تحقيق هدف الأسلوب التكتيكي الثاني وهو استدراجه عبر محاكاة نزعاته التوسعية وغطرسته ليكون ضمن دائرة المقربين دون أن يرقى إلى مرتبة الأصدقاء أو الحلفاء، فكان له كثيرٌ من العطاءات الروسية التي لبّت جزءاً كبيراً من نزعاته وغذّت حيّزاً واسعاً من أوهامه، ومن ضمنها صورايخ إس 400 التي اعتقد العثماني الجديد أن حيازته لهذا السلاح الروسي المتطور ستحقق بعضاً من أهدافه المرتبطة بابتزاز الأوروبيين والأمريكيين، شركائه في الناتو، سواء ما تعلق منها بمشاريعه التوسعية في المنطقة دون مراعاة مصالحهم أو مصالح بعضهم، أو ما ارتبط بموضوع الاستعلاء الذي يمارسه على أوروبا بشأن الرغبة بالانضمام إلى النادي الأوروبي وادعائه الحقَّ في ذلك، لكن هذا التكتيك انعكس سلباً عليه من حيث النتائج، ووَضَعَه وبلاده ضمن دائرة التشكيك بوفائه، ونبّه شركاءه الأطلسيين إلى عدم وثوقيته، فتحقق لموسكو الكثير مما كانت تصبو إلى نيله في هذا المضمار وأبرزه إحداثُ شرخٍ أوّلي في جدار التماسك الذي وَسَمَ تاريخَ حلف شمال الأطلسي ودوله من خلال استقطاب أردوغان وإغراقه في متاهة الازدواجية في الانتماء من جانب، وتأليب واشنطن وحلفائها في الناتو ضده من جانب آخر مع ما يعنيه ذلك من عوائد إيجابية على موسكو ؛ فحين يترنح أردوغان تحت ضغط العقوبات الأوروبية والأمريكية سيصبح مجبراً على اللجوء إلى روسيا لمساندته وتعويض بعض ما يخسره جراء ذلك، وفي هذا السياق يمكن فهم مرامي وأبعاد اللهجة الحادة في موقف موسكو حين علق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على عقوبات واشنطن على تركيا بقوله "إنه تعبير جديد عن سلوك متغطرس إزاء القانون الدولي، تعبير عن إجراءات إكراهية أحادية وغير مشروعة تستخدمها الولايات المتحدة منذ أعوام عديدة" . عدا عن أن الموقف الروسي لم يتأخر ؛ فإن ما تبتغيه موسكو بات جلياً ومرتبطاً باستراتيجيتها الرامية إلى إحداث خلخلة في بُنى الناتو عبر النافذة التركية، وتكريس مكاسبها الأولية التي حققتها حتى الآن في هذا الصدد .
التوتر الناشئ بين أعضاء البيت الأطلسي تلقفته موسكو بكثير من الاهتمام، وأعطت الانطباع بأن روسيا تقف إلى جانب تركيا – أردوغان في مواجهة عقوبات واشنطن والغرب، واستثمرت ذلك بتذكير أنقرة بثبات دعمها لها في صراعها مع خصومها الغربيين من جهة، ومن جهة ثانية بدت حريصة بمواقفها هذه على استمرار الإمساك بخيوط اللعبة مع أردوغان ضماناً لمصالحها الحيوية والقومية في صراعها التاريخي مع حلف شمال الأطلسي ودوله، وهي تدرك أن ثمن موقفها المعلن الرافض للعقوبات الغربية على تركيا أقل بكثير مما يمكن أن يترتب عليها لو أفلت العثماني الجديد منها بعد ما حازته من خلال استثماره واستثمار مواقفه على أكثر من صعيد وفي أكثر من مناسبة .
لا مبالغة في القول إن أردوغان وضع نفسه وبلاده بين فكي كماشة؛ فإذا كان طرفُها الروسي أسّس وساهم في بناء عملية تَخادم متبادلة معه وتمكّن عبرها من دفعه نحو حدود قصوى في مغامراته المناهضة لمصالح شركائه المفترضين، وهو ما تسعى إليه موسكو، فإن دول الناتو عموماً باتوا ينظرون بارتياب شديد إلى سياسته ونهجه بأبعادها الواسعة، وباتوا أكثر تشكيكاً بإمكانية وفائه لالتزاماته تجاههم، وإذا كان الرئيس التركي يعتقد أنه لا يزال قادراً على الضغط على نظرائه الغربيين وعلى الناتو وابتزازهم بقضايا الهجرة واللاجئين وقاعدة انجرليك، وكونه الرأس المتقدم في مواجهة النفوذ الروسي باسم الحلف الأطلسي، فإنه موغلٌ في التوهم بعد توحد الموقفين الأمريكي والأوروبي ضده .
بعد حزمة العقوبات من قبل كل طرف منهما ضده يتضح جليا أن الاتفاقات والتفاهمات العسكرية مع موسكو وما أثارته قضية تسلحه بمنظومة صواريخ إس 400 من ردود فعل ومواقف غربية وأمريكية تحولت إلى قيود وعوائق تحدُّ من خياراته وتقلص فرصه للإفلات منها بسهولة أو دون ثمن . زعزعة الاستقرار والفوضى التي أحدثتها السياسة التركية في شرق المتوسط وقضايا عديدة في المنطقة، ورغم تهديدها بنسب متفاوتة لمصالح الدول الغربية وللأمريكيين، فإن تعاملهم معها لم يتخطَّ حدود التحذيرات الحادة أحيانا، والتلويح بالعقوبات أحيانا أخرى، لكن حين تعلق الأمر بمسألة الابتزاز بورقة السلاح الروسي كان الرد الأمريكي – الأوروبي أكثر وضوحاً وإصراراً على مواجهته كونه خطراً رآه الأطلسيون محدقاً بهم على المستويين الاستراتيجي والبنيوي لهياكل الحلف ومؤسساته، بما فيها احتمال خرق منظومة الناتو الأمنية وكتلة أسراره الداخلية بجميع تصنيفاتها وبناها، علاوة على أن انزياح تركيا – أردوغان إلى الضفة الأخرى، وهو عضو وشريك في الناتو، وفّر سانحةً للأوروبيين مستثمرين وحدة الموقف مع واشنطن للحد من مغامراته غير المحسوبة ووضعه ضمن واحد من سياقين، الأول التراجع عن صفقة إس 400 والعودة إلى النادي الأطلسي بكل ميزاته ومسؤولياته ؛ ما يعني انتكاسةً حادة له ولسياسته على المستويين الداخلي والخارجي على حد سواء، إضافة إلى أنها ستحدث تصدعات في جدار علاقاته مع روسيا في قضايا عديدة قد تحمل معها نذر صدامات ومواجهات محدودة في بعض الساحات صوناً لمصالح كل طرف، وستؤدي إلى خسارته لكثير من المكاسب الجيو سياسية والاقتصادية التي حازها جراء الإغراءات الروسية له، أما السياق الثاني فهو الاستمرار في نهجه المناهض للمصالح الغربية والأطلسية، التي يتكسب منها أساساً، والبقاء إلى جانب موسكو، وبالتالي تحمّل ما يرتبه ذلك عليه من تعميق لعزلته وتكبيلٍ لاقتصاد تركيا الذي يترنح بفعل عوامل كثيرة، ولاحقا فقدانه لكثير من أوراق نفوذه وتأثيره على الساحتين الإقليمية والدولية، وقد يحمل هذا السياق في طياته احتمالات تتعلق باهتزازات داخلية ناجمة عن الضغوط التي تتوالى اقتصادياً وسياسياً بما فيها مخاطر على الاستقرار الداخلي .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة