لفترة طويلة من الزمن كان التفكير "التآمري" رهينا بالدول والشعوب المنتمية إلى العالم الثالث، باعتباره طريقة سهلة لتبرير التخلف عن صف التقدم، وإلقاء اللوم على الآخرين، لعل ذلك يعفي من العمل والعرق والدموع اللازمة للخلاص من أحوال صعبة.
في الغرب والدول المتقدمة عموما كانت "المؤامرة" مستهجنة، اللهم إلا من شريحة صغيرة في أقصى اليمين واليسار تتبنى وتروج لهذه الأفكار التي لا يمكن إثباتها، هي عادة متروكة لهواجس الناس ومخاوفهم.
لم يعد الحال كذلك في هذه الأيام بعد أن انطلق "جن" اليمين المحافظ المتشدد في العالم الغربي المتقدم الذي بات هو الآخر يستخدم بشكل واسع فكر "التآمر" لكي يخلق حالة من التوتر والاستقطاب في المجتمعات، ويواجه الجماعة الديمقراطية الليبرالية في نظرتها إلى العالم وإلى الوجود ذاته. لم تعد المؤامرة فكرا مريضا ومختلا، وإنما باتت وسيلة سياسية معتبرة لجذب الأنصار وإحداث الانقسام وخلق التعصب. الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" سوف يكتب له في كتب التاريخ أنه حمل الموجة التآمرية كلها إلى ارتفاعات لم تكن متخيلة من قبل خلال الأربع سنوات التي سكن فيها البيت الأبيض، وحتى وقت كتابة هذه السطور لا زالت تغريداته تعكس حالة الفكر هذه. وربما لم يرد على موضوع أو قضية من "مؤامرة" مثل الذي ورد على أزمة كورونا التي دخلت القاموس اللغوي والسياسي والاقتصادي العالمي قبل عام أو أكثر قليلا. ما لفت النظر أن أزمة "كوفيد ١٩" كشفت كيف أن الإنسان لا يحتاج للرجوع إلى العلم لكي يعرف أصول الفيروس ومكوناته وكيف يمكن مواجهته؛ فقد كانت أول التفسيرات التي استمعت إليها هي أنه في الحقيقة لا يوجد فيروس في الأصل، وأن المسألة كلها إعلامية. وفي حديث مع شاب عن الموضوع في أول الأزمة وجدته يستبعدها استبعادا مطلقا مدعيا أن أجهزة الإعلام تحاول السيطرة على العقل البشري من خلال الخوف، وفي الطريق فإنها ترفع من حجم مشاهداتها والانجذاب نحوها، ومعها تروج لأنواع جديدة من البضائع والسلع، وترفع البورصة وتخفضها، وتكسب في كل الأحوال. الرئيس ترامب وصف الأزمة في شهرها الأول بأنها "Hoax" أو احتيال إعلامي لا يستحق الاهتمام، ومع استمرارها بات التركيز أكثر على أنها باتت مجرد أداة في يد الخصوم لنزع الشرعية عنه والتشكيك في سياساته.
ولكن مسار الأزمة جعل "المؤامرة الإعلامية" بسيطة وغير كافية للتعامل مع أوضاع معقدة نتيجتها الكثير من الموتى تعدوا المليون والمصابين الذين وصلوا إلى عشرات الملايين، أما الحياة العامة فقد أصابها شلل تراوح ما بين الركود والكساد ومقتل التواصل الاجتماعي والسعي الاقتصادي. هنا دخل التفكير التآمري إلى طائفة أخرى من المؤامرات السياسية فكان الاتهام الغربي للصين بأنها كانت وراء الفيروس، إما بغير قصد لأن "التحول" الفيروسي جرى في سوق غريبة للحوم، أو عن قصد من خلال المعامل البيولوجية التي تحاول إنتاج أسلحة بيولوجية تعطي الصين تفوقا عسكريا كبيرا. ولكن الصين كانت المتضرر الأول من الأزمة، وهي التي خسرت الكثير من إزعاج العولمة التي جعلتها قوة عظمى، ولديها أكبر مراكز إمدادات الصناعة العالمية. وفي العادة في أدب المؤامرات فإنه لابد وأن يكون لكل مؤامرة أخرى مثلها مضادة لها في المقدار ومضادة لها في الاتجاه، ولذا لم يكن ممكنا إعفاء الولايات المتحدة وما لديها من مخابرات وأجهزة سرية وعلنية بعيدة عن محاولة تدمير الصين قبل أن تستكمل صعودها العظيم. وهذه المرة تراوحت المؤامرة أيضا بين جماعة عسكرية رياضية أمريكية تسللت إلي الصين حاملة الفيروس قامت بتوزيعه؛ أو حالة فشل في معامل الأسلحة البيولوجية الأمريكية خرج منها الوباء القاتل. وفي العالم العربي لم يكن هناك بأس من إضافة إسرائيل والصهيونية العالمية للقصة رغم العلاقات الوثيقة للغاية بين إسرائيل والصين فإنها لم تمنع المؤامرة التي كانت أحادية من كل طرف أو نتيجة جهدهما المشترك. وكما هي العادة فإن حزمة المؤامرات لا تكتمل دون العودة إلى مؤامرة مركزية يقودها مجلس عالمي سري ماسوني يغير من تاريخ العالم كيفما يرى مصالحه، وهو مجلس ربما يضم الشركات الرأسمالية الكبرى في العالم، أو جماعة الماسونية السرية، أو المجلس والجماعة معا ومعهما الصهيونية في مجمع واحد.
كان ذلك ما أشرت إليه في مقالات سابقة، ولكني لم أصدق عندما وجدت أن مؤامرة الفيروس التاجي بات يقابلها مؤامرة للقاح الذي سوف يقاوم ويقتل الفيروس ويعيد لنا الحياة التي ضاعت، والاقتصاد الذي يعاني من التراجع والانكماش والمهدد بالكساد.
اللقاح أصبح سلعة تسعد بها شركات ودول حتى تسيطر على العالم وتحلب ما فيه من خيرات لأنها سوف تتحكم في سلعة يحتاجها مليارات من البشر. ربما لن توجد سلعة أخرى في تاريخ البشرية كان عليها هذا القدر من الطلب الذي يواجه قصورا هائلا في العرض. وعندما بات معروفا أن اللقاح سوف يكون مجانيا أو بأثمان قليلة، ولا يدفعها الفقراء على أية حال، جاءت المؤامرة الكبرى بأنه مع حقنة اللقاح سوف يكون هناك دس لشريحة تقرأ كل ما هو غير معلوم عن الشخص من معلومات، فضلا عن خاصية تتبع الانسان أينما ذهب. ما كان ملحمة بشرية وإنسانية كبيرة لمقاومة "جائحة" رهيبة التأثير على الجنس البشري، أصبح الآن صدى لأفلام سينمائية بشرت من قبل بأقمار صناعية تتابع شخصا ما بلا هوادة. السينما كانت تدس في ملابس الإنسان وسيلة التتبع، وفي عصر كورونا واللقاح فإن شريحة الملاحقة سوف تكون في الدم. لاحظ هنا أن اللقاح الملعون سوف يأتي من دول عرفت بالاستعمارية والإمبريالية؛ وإذا كان مشكوكا أن الفيروس كان مؤامرة في الأصل للسيطرة على العالم، فربما كان اللقاح هو استكمال لهذه المؤامرة التي علمت الانسان درسا لن ينساه. طبيعة الدرس لن نعرف أسراره، ولكن المؤامرة سوف تكون مستمرة في كل الأحوال.
والحقيقة هي أنه لا يمكن التتبع التاريخي للوقت الذي بات فيه الفكر التآمري مسيطرا ومهيمنا إلى هذه الدرجة؛ ولكن ربما من الممكن طرح فرضية أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠١٦ ربما كانت هي نقطة البداية حينما بدأ دونالد ترامب - المرشح الرئاسي آنذاك- في الحديث عن تزوير الانتخابات الأمريكية من قبل الديمقراطيين. كان في ذلك تشكيك في قدس الأقداس الأمريكية؛ ولكن الديمقراطيين لم يشاؤوا ترك الساحة التآمرية الأمريكية للجمهوريين وحدهم، فهندما هزمت مرشحتهم هيلاري كلينتون كان أهم أسبابها التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عن طريق التأثير في اتجاهات المصوتين في الولايات المتأرجحة.
في الانتخابات الرئاسية ٢٠٢٠ كانت الدورة التآمرية قد عادت إلى ترامب مرة أخرى. وفي البداية كانت حدوث تزوير في عدد الأصوات، وبعد أن جرت إعادة عد الأصوات، والتقاضي بشأنها أمام المحاكم فإن دعوى المؤامرة باتت بالتدخل في آلات المسح الإلكترونية بحيث تقرأ ما يأتي لها من أصوات بطريقة مختلفة، أو تتجنبها تماما إذا كانت مؤازرة لترامب. المؤامرة هنا تلتحم بمؤامرة أخرى، كورونا مع الانتخابات حيث كانت الأولى هي التي حتمت الطريقة واسعة النطاق للتصويت خوفا من العدوى؛ وكانت الثانية جاهزة لاستقبال ما هو أكثر من ١٠٠ مليون صوت لكي تجري فيه ما تشاء من جراحة تآمرية. المؤامرة هي الفائزة في كل الأحوال، وفي هذه الساعة فإن التفكير التآمري يكرس دائما لادعاء غياب الحقيقة التي لا يستطيع الإنسان أن يعيش بغيرها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة