لا أحد يفلت من الموت سواء كان كاتبا أو صحافيا أو أستاذا جامعيا أو طبيبا، إذا ما عبّر عن أفكاره المضّادة لما يجري على أرض العراق من انتهاكات وفساد.
حيث تترصده آلة الموت وفرقها التي تحمل قوائمها سرّا وتقوم بتنفيذ أوامر الاغتيالات. فلا يوجد في العالم بلد تتحكم فيه المليشيات والأحزاب الدينية مثل العراق، وهي تمتلك ترسانة من الأسلحة المنفلتة وتقوم بعملياتها أمام مرأى ومسمع قوات الأمن الحكومية، بجميع تشكيلاتها، وهي صامتة أو تتفرج على ما يجري من اغتيالات في وضح النهار.
جاء مؤخرا اغتيال صلاح العراقي أحد ثوار حركة تشرين الاحتجاجية السلمية والأكاديمي رئيس جامعة ميسان د. أحمد الشريفي، لبعث رسائل تؤكد على أن الحكومة العراقية عاجزة عن حماية أي فرد من آلة الموت القاهرة التي تتحرك في الظلام الدامس. والكل عاجز أمام هذا المارد الذي كبر وتضخم إلى أن أصبح الأداة الخفيّة التي لا يستطيع أحد الكشف عنها، والكل صامت بذريعة أن التحقيقات سوف تكشف الجناة والقتلة، وحتى الآن لم يتم الكشف عن أي قاتل في مسلسل الاغتيالات السياسية الذي لا ينتهي رغم تشكيل اللجان التحقيقية المختلفة. والقضاة عاجزون أيضا بل إن آلية القضاء مُعطلة ولا تعمل وفق قوانين البحث والتحري والتحقيق المعتادة في العالم.
وتحصل هذه الاغتيالات بوجود برلمان وأحزاب وحكومة ورئيس وزراء وكل ما تتطلبه الأشكال الديمقراطية في العالم، لكنها مجرد واجهة لتجميل بشاعة الموت ووجهه التراجيدي. ولا تزال حكومة الكاظمي تعد أكثر من مرة بأنها سوف تكشف عن القتلة وتنزل القصاص بهم، ولا شيء من ذلك يحدث أمام جبروت المليشيات والحشد الشعبي والموالين لإيران وغيرهم ممن يمسكون زمام الأمور ويحركون خيوط اللعبة القاتلة من وراء الكواليس. ولا يزال الكاظمي يقوم بتشكيل مجالس تحقيقية في جرائم الاغتيالات من دون أن تؤدي إلى نتائج حقيقية. وليست هذه المجالس التحقيقية سوى وهم من أوهام السلطة وذّر الرماد في العيون ليس إلا. وهناك مثل سائد في العراق يقول: إذا أرادت الحكومة أن تسوّف قضية ما، فهي تذهب لتشكيل مجالس تحقيقية، حتى راجت في مظهر نكتة وفكاهة في الأوساط الشعبية.
لا تزال الملفات تتكدس من دون تحقيق أية نتائج تُذكر في أدراج المجالس التحقيقية التي يتلقى أعضاؤها تهديدات بالخطف والتعذيب والاغتيال، ولا يزال القاتل مجهول الهوية ولا يمكن رؤيته أو التعرف عليه أو حتى الاشارة إليه. وهكذا يتم التعامل ليس مع الأفراد المغدورين فحسب بل حتى مع القضايا الكبرى بالعقلية ذاتها، حيث تُغلق الملفات الواحدة تلو الأخرى مثل غلق ملف التحقيق بسقوط الموصل، وتفجير المرقدين المقدسين بسامراء، واغتيال الدكتور هاشم الهاشمي، وعقود التسليح والفساد المالي والإداري رغم توصل البعض إلى الأدلة الدامغة، إلا أن هذه الجرائم تبقى من صنع الأشباح أو الكائنات الفضائية، والحكومة بكل ما لديها من قوات رسمية من جيش وشرطة وقوات خاصة أخرى غير قادرة على حماية الناشطين السلميين، أو الكشف عن القاتل لأن آلة القتل محاطة بقدسية خاصة لا أحد يستطيع التعرض لها أو المساس بها.
يعيش العراقيون حالة عجز وانعدام للأفق وهدر للكرامة الإنسانية أمام مسلسل الاغتيالات الذي لا ينتهي كما يبدو، وتكمن خطورته في أنه يعمل ضمن خطة استراتيجية من أجل إفراغ العراق من الكفاءات العلمية، حتى أن المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق حذرت من عودة مسلسل استهداف واغتيال الأساتذة الجامعيين والأكاديميين، وطالبت الحكومة بحمايتهم وتشريع القوانين الحامية لهم، دون أن تعير الحكومة انتباها لمسودة قانون حمايتهم الذي أرسلته المفوضية إلى الحكومة منذ أكثر من عام. ولعل اغتيال الأستاذ الجامعي، أحمد الشريفي، عميد جامعة ميسان مؤخرا خير دليل على تسويف قانون حماية الكفاءات، ولا يكتفون بذلك بل ينشرون البدع والخرافات والأوهام والمخدرات والفساد.
مما لا شك فيه، أن الاغتيال السياسي ليس جديدا على العراق، فهو يعود إلى فترة تأسيس الدولة العراقية في 1921 ولحد الآن. ولعل كتاب "الرصاص السياسي في العراق" لمؤلفه فايز الخالدي يوثق تاريخ هذه الاغتيالات السياسية، ويذكر أن الدم والرصاص لم يتوقفا منذ ما قبل العهد الملكي، بل استمر في الحكم الجمهوري إلى الوقت الحالي حيث أصبح الاغتيال السياسي ظاهرة خطيرة لا أحد يستطيع كبح جماحها. ويذكر في مؤلفه أشهر الشخصيات التي تم اغتيالها أمثال توفيق الخالدي الذي شغل منصب وزير الداخلية في حكومة عبد الرحمن النقيب في 1920، واغتيال وزير الدفاع جعفر العسكري في حكومة ياسين الهاشمي في 1936 إثر انقلاب بكر صدقي، ويؤرخ لمقتل الملك غازي بحادثة سيارة مُدبرة، ويصل إلى أشهر الاغتيالات في العهد الجمهوري حتى بروز "فرق الموت" في 2003 التي تقودها الأحزاب والمليشيات الموالية لايران.
إن آلة الموت في العراق تعمل ضمن آلية ذات أبعاد استراتيجية وأجنبية تحكمها المصالح والمال والطائفية والخرافة والمظلومية وغيرها، ولا أحد يعرف متى يتوقف هذا المسلسل المظلم في حق العراقيين؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة