النقد والناقد والجمهور.. وصاية أم حرية مطلقة؟
ما حدود العلاقة بين الناقد والجمهور في ظل الوسائط التفاعلية الحديثة؟ هل هو ملزم بالنزول على رغبة جمهوره؟ وهل يمارس أي وصاية عليه؟
على صفحته الشخصية على "فيسبوك"، كتب الناقد الجماهيري محمود عبد الشكور تعليقا مختصرا عن مشاهدته لأحد أفلام الموسم، التعليق حمل رأيا إيجابيا حول الفيلم وأبطاله، كتب يقول "مباشرة من سينما نايل سيتي؛ أحمد حلمي يستعيد كل لياقته الفنية في "لف ودوران" أفضل أفلام موسم عيد الأضحى، كوميديا رومانسية زي الكتاب ما بيقول، كاتبة سيناريو متميزة اسمها منة فوزي، صورة بديعة لأحمد يوسف، كاست هايل، ودنيا وأحمد في أفضل حالة. فيلم جيد بتوقيع خالد مرعي، استمتعوا"..
كانت هذه الأسطر الثلاثة كافية، مع المتابعة الكبيرة التي تحظى بها صفحة الناقد المميزة، لتندلع مناقشة حامية بين قرائه ومتابعيه حول ما كتبه، منهم من اتفق معه واستحسن ما كتب، وآخرون عارضوه بشدة بل أعلنوا صراحة أنهم رغم تقديرهم لخبرته الواسعة والمتراكمة في مشاهدة الأفلام ونقده الممتع إلا أنهم يخالفونه الرأي وكتب أحدهم نصا "كيف لك يا أستاذ محمود أن تكتب هذا الكلام!" مستهجنا رأي الناقد وحكمه! بل وصل الأمر ببعض قراء عبد الشكور إلى القول "رأيك مفاجئ جدًا يا أستاذ محمود، وأنتظر منك تفاصيل هذا الرأي في المقال.. الفيلم لم يعجبني إطلاقا"!!
حملت التعليقات المتحمسة؛ المؤيدة والمعارضة، المستحسنة والغاضبة، دلالات مهمة لمن يتأمل مشهد النقد الفني المعاصر، منها مثلا حيوية وخطورة الدور الذي يلعبه الناقد الجماهيري (إن وجد) ومدى ما يمثله من أهمية لجمهور عريض متعطش لقراءة نصوص نقدية تمتعه وتفيده في آن، وتحرضه في الآن ذاته على مشاهدة العمل الفني وإبداء رأي جمالي فيه كل حسب موهبته وذائقته وخبرته الشخصية. ومن هذه الدلالات التي حملتها التعليقات، تلك المسؤولية الفنية والأدبية التي يحملها الجمهور لناقدهم المفضل، وكذلك تحميله أفق توقعاتهم المنتظرة، فيطالبونه (للغرابة!) بأن يكتب وينحاز لما يريدونه هم لا ما يراه هو! أيضا كان لافتا استعجال الجمهور للناقد بتدوين حيثيات رأيه في مقاله المكتوب؛ وبعضهم اعتبر أنه "ملزم إلزاما" بإعلان رأيه وبالرد على الآراء المعارضة وعدم الاكتفاء بهذه الأسطر الثلاثة!
بسبب من هذا الاشتباك المحمود حول الفيلم، ارتأى الناقد محمود عبد الشكور أن يشفع "البوست" المثير بتعليق توضيحي قال فيه "أحب أن أوضح أن رأي الناقد استشاري ولا يشكل أي وصاية على الجمهور، والفارق بين هذا الرأي وبين رأى المتفرج هو أن الناقد مطالب بحيثيات تفصيلية لهذا الرأي، والمتفرج في النهاية حرّ بعد ذلك في أن يقتنع أو لا يقتنع بما قرأ. ليس غريبا أن تختلف الآراء على الإطلاق، بل إن الفيلم الواحد ينقده كل النقاد، فيتفقون ويختلفون، المهم دائما أن يقدم كل واحد منهم حيثيات هذا الإتفاق أو الاختلاف".
ولأن المناقشة حول الفيلم أخذت منحى حماسيا بين مؤيد ومعارض فيما يشبه منافسات كرة القدم، ذكر عبد الشكور أن كثيرا من متابعيه وخاصة من الشباب يسألونه دائما: "حسنا.. كيف نتجاوب مع رأي أي منهم؟" فيرد قائلا: "تجاوب مع رأي من تقتنع بحيثياته"..
ما ذكره الناقد هنا في معرض محاولته لفض الاشتباك حول ما كتب (لم يكن نشر مقاله التفصيلي عن الفيلم بعد)، أثار اهتمام الكاتب والمترجم إيهاب عبد الحميد الذي تناول النقاش الدائر على صفحة محمود عبد الشكور من زاوية أخرى.. كتب عبد الحميد يقول: "كل ما ذكرتَه صحيح، لكن أيضًا الوسيط الذي يمثله "فيسبوك" بطبيعته وسيط تفاعليّ، لذا فمن المتوقع أن لا ينتهي نقدكَ بالبوست الذي كتبتَه، من الطبيعي أن يكون هناك ردود على البوست، وردود على ردود البوست، ويستمر الحال هكذا طالما هناك نقط مفيدة يتم طرحها أو خلافات يتم مناقشتها.. وفي النهاية كل هذا دليل على اهتمام الناس برأيك، وحقهم عليك أنك ترد طالما كانت هناك نقاط خلاف وجيهة".
وجهة النظر هذه كانت كفيلة بأن يقدم عبد الشكور، بدوره، ردًا على الرد، فيكتب "أحببت فقط أن أوضح الفرق بين الرأي النقدي وبين الحقيقة بمعناها الفلسفي المطلق، هناك من يعتقد أنك صدمته في رأيه، أو أنك صادرتَ على حقه، ما أحببت أن أقوله هو إعطاء حرية في المناقشة وليس تحديد الأمر أو بتره، على العكس تماما، المهم فقط إن بعض هذه البوستات على فيسبوك تكون مجرد عناوين، لا يمكن مناقشتها بشكل سليم انتظارا لنشر المقال الأصلي الموقوت بموعد نشره، وفي الغالب فإن المقال التفصيلي يحتوي على كل الحجج والآراء المطروحة حول الفيلم، وبالتالي فليس من الممكن إضافة شيء جديد عقب نشر المقال، ومن ثم تترك حرية التعليق للناس لأن حريتهم هى الضلع الثالث في الحالة الإبداعية".
عقب هذا النقاش المحتدم توجهت "العين" إلى الناقد محمود عبد الشكور، مرة ثانية، لتسأله مباشرة عن مزيد من الإيضاح حول حدود العلاقة بين الناقد والجمهور، فقال في تصريحات خاصة لـ "العين":
"أنت كناقد لا تشاهد الأفلام لحسابك الشخصي أو لمتعتك الذاتية، ولكنك تشاهد الأفلام لحساب القارئ. يقول طه حسين العظيم إن الناقد هو "مستشار" القارئ. نحن والمبدعون نقدم أعمالنا إلى القارئ، وبالتالي ليس صحيحاً ما هو شائع بأن الناقد يكتب لكي يستفيد النجوم من نصائحهم"، ويضيف عبد الشكور "لا تكتب بمنطق الوصاية على القارئ أو المشاهد، قل حكمك وحيثياتك بهدوء، حريتك في أن تنقد تقابلها حرية القارئ في أن يرفض ما كتبت، أثبت للقارئ أنك مرشد سياحي مميز لمعبد مجهول الأسرار، قدم براهينك ومعلوماتك وأفكارك ولا توجّه أو تُملي أو تُسفّه أو تتعالى على من تكتب لهم".
واختتم عبد الشكور "أعظم نجاح يحققه أي ناقد ليس بأن يردد القراء أحكامه وحيثياته عن الأعمال الفنية والأدبية، ولكن بأن تنمو لديهم ذائقة نقدية بالتراكم، فيكتشفون بأنفسهم مجالي الحسن والإبداع في الأعمال التي يشاهدونها. أعظم ما يحققه النقد هو إشاعة منهج جمالي يتيح للناس أن تتذوق بنفسها مستويات أعلى وأعمق للأعمال الفنية والأدبية".
لكن يظل السؤال معلقا: ما حدود العلاقة بين الناقد والجمهور في ظل الوسائط التفاعلية الحديثة (مواقع التواصل الاجتماعي، مثلا)، هل الناقد ملزم بالنزول على رغبة جمهوره بالانحياز لما يريدون أو يلزمونه به؟ هل يمارس الناقد وصاية على ذوق جمهوره؟
يجيب عن هذا السؤال، الناقد الدكتور خيري دومة، الأستاذ المتخصص في الأدب والنقد، بعد سحب الموضوع من منطقة النقد الفني والنقد بصفة عامة إلى النقد الأدبي ونقد النصوص الإبداعية بصفة خاصة، يقول دومة "كل الأسئلة التي تتعرض لطبيعة المتابعة النقدية أو تراجعها أو العلاقة التي تحكم أطرافها، على تنوعها وتعددها، تكاد تنطلق من بؤرة واحدة: غياب النقد الأدبي ودوره في حياتنا الثقافية، على عكس ما كان سائدًا في أزمنة سابقة"، لكنه يعود ليؤكد أن "وسائط الاتصال الحديثة أصبحت اليوم أوسع بكثير عن حالها في هذه الأزمنة السابقة، وهو ما يفتح أبوابًا واسعة لنشر الأعمال الإبداعية من ناحية، وللكتابة النقدية عن هذه الأعمال من ناحية أخرى".
ويتابع دومة، أنه بقدر ما يكون هذا في مصلحة الإبداع والنقد على السواء، فإنه يتعب القارئ المتابع؛ لأنه لن يتمكن بحال من متابعة آلاف الأعمال الإبداعية المنشورة سنويًّا، ثم متابعة ما يكتب عنها من نقد على اتساع العالم العربي. وانطلاقا من هذه الحقيقة، يرى دومة أنه "وسط كل الزحام الناتج عن هذا يمكن أن تتوارى أصوات مبدعة ممتازة، وتتوارى معها أصوات ناقدة لا تقل تميزًا. كما أن هناك على الجانبين اليوم: الإبداع والنقد، متطفلين يلعبون دورًا مفسدًا للمناخ، ومحبطًا لمن يريد أن يعمل أو يكتب".
في الأخير، يبقى أن للنقد دورا محوريا ورئيسا ولا يمكن تحمل غيابه أبدا، وأن الإبداع الجيد وحده هو المحرض على نقده وتناوله، وأن جمهور المتلقين في النهاية في حاجة دائما لمن يفيدهم بخبرته وينقل لهم رأيه مدعوما بحيثياته..