لا جديد في عالم السياسة بين الدول الكبرى. فلقد تمت تجربة كل شيء، بما ذلك السير على حافة هاوية نووية.
الحرب الدائرة في أوكرانيا، وقرار موسكو بنقل أسلحة نووية تكتيكية إلى حلفائها في بيلاروسيا، لا يصنعان وضعا استراتيجيا لم يعرفه العالم من قبل.
سنوات الحرب الباردة كلها كانت سنوات عيش على حافة نووية. ومع جملة من الحروب الفرعية، فإن المخاطر ظلت جسيمة باستمرار، إلا أن رادعا "ذاتيا" ظل يحول دون تحويل هذه المخاطر إلى انقلاب فعلي يؤدي إلى دمار جزء كبير من العالم.
لا توجد مصالح، على سطح الأرض، تستحق أن يتم تدمير الأرض من أجلها. كل المصالح صغيرة أمام الدمار الشامل الذي يعد به استخدام أسلحة نووية.
أزمة الصواريخ الكوبية التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 1962، ربما كانت هي اللحظة الأخطر التي جعلت العالم يجد نفسه أمام كارثة نووية وشيكة.
الأزمة اندلعت بعد فشل محاولة انقلابية دبرتها الولايات المتحدة للاستيلاء على السلطة في هافانا بالتزامن مع غزو أمريكي للأراضي الكوبية انطلاقا من خليج الخنازير في أغسطس/آب من ذلك العام. وفي خضم حمى من الصراع الأيديولوجي والتنافس العسكري في أوروبا كانت قد انشطرت إلى شطرين يفصل بينهما حائط برلين الشهير، فقد لجأت كوبا إلى بناء قواعد سرية لاستقبال صواريخ متوسطة المدى سوفيتية قادرة على حمل رؤوس نووية، تكفي لتغطية كل الأراضي الأمريكية.
كل قوى الطرفين النووية دخلت مرحلة الاستعداد للمواجهة. كان الأمر يتوقف فعلا على "ضغطة زر" يقررها أحد الرئيسين: جون كينيدي في واشنطن ونيكيتا خروشوف في موسكو.
كانت هناك استعدادات مسبقة أيضا. فالولايات المتحدة بدأت نشر صواريخها النووية في بريطانيا منذ العام 1958، وفي إيطاليا وتركيا منذ العام 1961، وكان بوسع الولايات المتحدة أن توجه ضربات مباشرة إلى موسكو بأكثر من 100 صاروخ ذي رأس نووي.
السوفيات قدموا أنفسهم كأكبر قوة نووية ببرنامج قنبلة قالوا إنها ذات قوة تدميرية تبلغ 50 ميغا طن. وذلك على الرغم من أنهم كانوا يملكون عددا محدودا من الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، قياسا بما تكمله الولايات المتحدة. إلا أن العامل الحاسم هو أن السباق النووي كان يقوم على جاهزية نفسية في ذلك الوقت لم تعد متوفرة الآن.
هناك اليوم توازن نووي ملموس بين روسيا والولايات المتحدة. ولكن تنقصه العزائم. وتمنعه العهود والمواثيق. ويقف دونه رأي عام دولي مناهض ليس لاستخدام الأسلحة النووية فحسب، ولكن مناهض للتلويح بها أيضا.
"الاتفاقية الشاملة" التي وقعها الرئيسان الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين قبل أيام في موسكو، كرست الالتزام بالامتناع عن استخدام الأسلحة النووية، ودعمت الموقف النفسي المناهض لها في كل أرجاء العالم.
ولئن ظل لأزمة الصواريخ الكوبية ما بعدها في واشنطن، فإنها انتهت بعد 13 يوما فقط، بموافقة روسيا على وساطة الأمين العام للأمم المتحدة يو ثانت، وسحبت صواريخها من كوبا وأغلقت قواعدها.
صقور واشنطن اعتبروا أن كيندي أظهر تراخيا إزاء التهديد السوفياتي. وهناك من يعتقد أن اغتياله بعد عام من الأزمة، في 22 نوفمبرتشرين الأول 1963، كان على صلة مباشرة بها.
صدق ذلك الاعتقاد أم لم يصدق، فالحقيقة هي أن النفوس التي كانت تغلي في خضم الأزمة ظلت تغلي من بعدها أيضا. واحتاجت الولايات المتحدة عقودا من الزمن، وتغييرا جذريا في الموقف الاستراتيجي السوفياتي حمله الرئيس ميخائيل غورباتشوف إلى العلاقات الروسية الأمريكية، لكي يتحول الموقف من الأسلحة النووية من سلاح إلى عبء. وهو ما تطلب من الطرفين أن يوقعا معاهدات لخفض المخزونات، والرقابة المتبادلة، ومنع الانتشار النووي، فضلا عن تنصيب أنظمة وآليات مشتركة لمنع وقوع حوادث عرضية أو سوء فهم.
كائنة ما كانت الظروف التي تحيط بالحرب في أوكرانيا، وكائنا من كان المنتصر أو المهزوم فيها، فإن العالم ليس مستعدا لقبول استخدام أسلحة نووية، ولا حتى السير على حافتها. التلويح نفسه هو دلالة على الضعف لا القوة.
الكل يعلم أن روسيا والولايات المتحدة تملكان من القوة النووية ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات. وهناك على سطح الأرض نحو 15000 سلاح نووي. ولكن الكل يعلم أيضا، أن المصالح الخاصة مهما عظمت، لا تساوي عواقب مأساة واحدة يقف وراءها صاروخ واحد.
إنسانية عالم اليوم، التي تحتفل بالخضرة والنقاء البيئي وتوازنات الطبيعة، أرقى وأهدأ وأكثر احتراما للحياة، من إنسانية العام 1962.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة