ما يحدث في إسرائيل الآن أمر غير مسبوق، فلأول مرة يظهر المجتمع العلماني الإسرائيلي بهذه القوة، والضخامة، والإصرار في مواجهة التطرف الديني والعنصري.
وعلى الرغم من أن جوهر الفكرة الصهيونية التي وضعها إسحاق هرتزل في بداية القرن العشرين كان علمانيا، إلا أن السياسات التي تم تطبيقها لتحقيق الحلم الصهيوني كانت تميل إلى توظيف الدين، والأساطير التاريخية، ومفهوم الصهيونية هنا استخدمه إسحاق هرتزل نفسه، وليس المفهوم الذي تعود الخطابي العربي على استخدامه.
والمشهد السياسي اليوم في المجتمع الإسرائيلي هو محاولة لاستدعاء العلمانية لتنقذ المجتمع والدولة من المصير الديني المحتوم، فقد استقر في الوعي التاريخي اليهودي أن هذا الشعب لم تقم له في التاريخ دولة، وتعرض للظلم والاضطهاد من جميع الدول والإمبراطوريات التي جاورها، أو عاش في كنفها، ما عدا حضارة المسلمين ودولهم المختلفة التي أجمعت على تقريب اليهود والاستفادة من خبراتهم، وحمايتهم من اضطهاد وظلم الآخرين.
فمنذ الفراعنة إلى النازية واليهود يتعرضون للظلم والاضطهاد مرورا بالفرس والبابليين والرومان والممالك الأوروبية المختلفة حتى الحرب العالمية الثانية، وهنا تخلصت أوروبا من اليهود وحولتهم من مظلومين مضطهدين إلى ظالمين مستعمرين.
طوال هذا التاريخ لم يستطع اليهود تكوين دولة لهم إلا في حالتين: مملكة الملك النبي داوود عليه السلام التي تأسست عام 1011 ق.م، ولم تكمل عامها الثمانين فقد نشبت فيها الصراعات والانقسامات في العقد الثامن حتى سقطت، والدولة الثانية والأخيرة هي مملكة "الحشمونائيم"؛ وهي مملكة يهودية كانت موجودة في فلسطين، تأسست عام 140 قبل الميلاد وانتهت بسيطرة الإمبراطورية الرومانية على البلاد عام 63 قبل الميلاد، حيث دام عمرها 77 عاماً. والدولة الثالثة التي تخشى نفس المصير هي دولة إسرائيل الحالية.
والغريب في هذا المشهد أن رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو في كلمة له عام 2017 حذر من لعنة العقد الثامن، ووعد أن يجعل إسرائيل تتجاوز هذه اللعنة، وتكمل عامها المائة. وبعده كرر رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك نفس المخاوف من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدا في ذلك بـالتاريخ اليهودي الذي يؤكد أنه لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة.
ففي مقال له بصحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم 7 مايو/أيار 2022 قال باراك "على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 سنة؛ حيث كانت بداية تفككها في العقد الثامن، وإن تجربة الدولة الحالية هي التجربة الثالثة وهي الآن في عقدها الثامن، وإنه يخشى أن تنزل بها لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتها.
أما رئيس حكومة السابق نفتالي بينيت فأعرب عن أمله ألا يتصارع اليهود فيما بينهم حتى يتجاوزوا تحدي الحكم لأكثر من 80 عامًا، وتجنّب الانهيار من الداخل كما حصل مع ممالك اليهود السابقة، معرباً عن خشيته من ذلك المصير. وأضاف في تصريحات له بداية العام الحالي، أنه "يتوجب التركيز على عدم الانهيار من الداخل؛ لأن أشد ما يواجه إسرائيل هو خطر التفكك داخليًا، وبالتالي الاندثار كما حصل بممالك اليهود السابقة".
وفي مقال نشر عام 2020 تحت عنوان "إسرائيل في امتحان العقد الثامن"، كتبه رئيس مجلس الأمن القومي السابق، الجنرال عوزي ديان أعاد فيه إلى الأذهان لعنة العقد الثامن بالمملكتين اليهوديتين السابقتين، وأضاف إليهما العديد من التجارب الدولية التي تفيد بأن العقد الثامن هو عقد محمل بالمخاطر وكثيراً ما انتهى بـ"تفكك عنيف"، على حد تعبيره.
في ظل هذه الأسطورة التاريخية المسيطرة في الثقافة الإسرائيلية يبدو أن هذه المظاهرات قد أطلقت العنان للقوى العلمانية واليسارية التي تخشى من مصير لعنة العقد الثامن، وتتحرك بقوة لتأسيس دولة ديمقراطية علمانية، وهنا ينبغي أن يستغل الفلسطينيون والعرب هذه اللحظة التاريخية للدفع نحو حل الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية التي يعيش في ظلها كل سكان فلسطين التاريخية، لأن حل الدولتين أصبح كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، موضوع الدولتين غير قابل للتحقيق والحل دولة واحدة وهذه هي الفرصة التاريخية للانضمام للعلمانيين واليساريين اليهود في إسرائيل وفي أوروبا وأمريكا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة