ربما اعتقد البعض في لحظة ما أن الخلافات بين بغداد وأربيل وصلت إلى طريق مسدود، خاصة أن الخلافات بينهما تراكمت خلال العقدين الماضيين، ووصلت في محطات منها إلى تبادل الاتهامات والتهديدات واستخدام لغة التخوين.
وذلك بعد أن أخفقت جولات المحادثات التي جرت بينهما خلال العهود الماضية في تسوية هذه الخلافات، وهي خلافات تتعلق بحصة إقليم كردستان من الموازنة العامة، واستخراج وبيع النفط والغاز، ومستقبل المناطق المتنازع عليها، وتنفيذ المادة 140 من الدستور بشأن مستقبل هذه المناطق، والاستفتاء الذي أجراه الإقليم على الاستقلال عام 2017 قبل أن يتم تجاوز هذا الخلاف في المحكمة الاتحادية العليا.
اليوم وبعد مرور نحو ستة أشهر على تسلم محمد شياع السوداني منصب رئاسة الحكومة العراقية بدت الصورة مختلفة، فثمة ركون واضح للغة الحوار، ومناقشة هادئة للخلافات، ورغبة واضحة من الطرفين في التوصل إلى حلول منطقية لها.
وفي هذا السياق، ينبغي النظر إلى سلسلة الخطوات التي أنجزت خلال فترة قصيرة، لا سيما الاتفاق بشأن ملف الموازنة وحصة الإقليم، والتقدم الكبير في القضايا المتعلقة بالنفط والغاز، التي كان آخرها كيفية التفاهم بشأن قرار المحكمة الفرنسية لصالح بغداد بشأن عدم مشروعية شراء تركيا النفط من إقليم كردستان دون الاتفاق مع الحكومة المركزية، وهو ما يؤكد أن الخطوات السابقة عززت من الثقة المشتركة بين بغداد وأربيل، وكرّست نهجاً هادئاً يقوم على الانتصار للمصلحة العليا بروح الأخوة بعيداً عن التلويح بلغة القوة والتخوين كما كان في السابق.
ولعل هذا ما دفع بحكومة الإقليم إلى القول إن التفاهمات الأخيرة بين الجانبين وضعت الأساس لحل الخلافات بينهما، وإن هذه التفاهمات تجاوزت قرار المحكمة الفرنسية، حيث يمكن ملاحظة ترجمة هذا الكلام من خلال حركة الوفود التي لم تتوقف من أربيل باتجاه بغداد، ومناقشة كل القضايا بشفافية وهدوء، فضلاً عن الزيارة المهمة التي قام بها السوداني إلى أربيل والسليمانية منتصف الشهر الجاري، وحديثه بقلب مفتوح عن كل القضايا التي تشغل الساحة العراقية، وسياسات حكومته في الداخل وتجاه الجوار والعالم.
وعن دلالات هذه الحقبة الجديدة الإيجابية لعلاقات بغداد - أربيل لا بد من التوقف عند مجموعة عوامل، لعل أهمها:
1- توفر رغبة جدية لدى الطرفين في حل الخلافات التي تراكمت بينهما، وسط قناعة بضرورة إنهاء هذه الخلافات، نظراً لأن استمرارها خسارة للجميع، وخطر على أمن العراق، وعلى تطلعات العراقيين من مختلف المكونات إلى التنمية والنمو والاستقرار والسلام.
2- إن الرغبة السابقة تستند إلى الدستور، وإلى وجود آليات دستورية وقانونية، من شأن اعتمادها إعطاء دفعة قوية للمشهد السياسي العراقي في الداخل، وبما يقوي هذا المشهد في انتهاج خيارات سياسية أقوى تجاه المنطقة والخارج.
3- إن الأحزاب الكردستانية في الإقليم تشكل جزءاً مهماً من ائتلاف إدارة الدولة العراقية، وهو ما يخلق حافزاً قوياً للطرفين في دفع حكومة السوداني إلى تحقيق نجاحات تحقق مصالح بغداد وأربيل على أساس الشراكة والمشاركة في تحقيق النهوض الاقتصادي والاستقرار السياسي.
4- قناعة الطرفين بأن بقاء هذه الخلافات قائمة تعني وجود إمكانية لتدخل قوى إقليمية في الشأن الداخلي العراقي والتأثير عليه، أو حتى إعطاء المجال لمجموعات ومليشيات في الداخل تتصرف خارج عقلية الدولة ومؤسساتها، فيما مصلحة العراق والعراقيين تقتضي طي صفحة هذه المليشيات التي ترى نفسها أقوى من الدولة، وقادرة على فعل كل شيء خارج الدولة والقانون عبر جعل الفوضى بوصلتها في كل الساحات.
5- قناعة الطرفين بأهمية مواصلة التعاون في محاربة تنظيم داعش الإرهابي الذي ما زال يشكل خطرا على العراق والمنطقة رغم تراجع نفوذه وقوته.
في الواقع، من الواضح أن العلاقة بين بغداد وأربيل في عهد حكومة السوداني تدخل مرحلة جديدة، على أساس الدستور والحوار الهادئ والشفاف، وفي كل ذلك ثمة قناعة تترسخ بضرورة مغادرة دائرة الخلافات والمشكلات، والذهاب إلى شراكات معززة باتفاقيات وتفاهمات وآليات عمل، لا تؤسس لحقبة جديدة بينهما فحسب، بل تمنع عودة هذه الخلافات حتى لو تغيرت الحكومات، إنها المعادلة الجديدة في العلاقة بين الجانبين، وهي معادلة غير بعيدة عن مناخ الانفراجات التي تشهدها العلاقات بين الدول الإقليمية في المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة