الديانات السماوية هي التي تبشر بالمحبة وبالإخاء وبالتفاهم وبالتسامح وإلى ما هنالك من قيم.
استضافت أبوظبي مؤتمر الإمارات الدولي للأمن الوطني ودرء المخاطر على مدى يومي الخامس والسادس من الشهر الجاري، تحت عنوان التسامح والوسطية والحوار في مواجهة التطرف، ويأتي هذا المؤتمر الدولي تقديراً وعرفاناً لما قدمه مؤسس دولة الإمارات المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ودوره الوطني في بناء الدولة وتأسيس نهضتها.
ولعل الأهمية لهذا المؤتمر تنبع من طبيعة الأسس التي تنتهجها دولة الإمارات تسامحاً وحواراً وموقفاً واضحاً في مواجهتها التطرف في المنطقة العربية، تلك المفاهيم رسخها مؤسس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي أكد إنسانية الإنسان واستزراع بذور الخير والنماء في المجتمع الإماراتي والتعايش واحترام الجميع إن كان من الثقافة أو من الدين.
لا معنى لخصوصية ثقافتنا وهويتنا العربية من غير التمسك بجذورها المضيئة في ثقافة المسيحيين العرب وتراثهم الغني في حماية الشخصية العربية لا من خطر الاحتلال فحسب، بل من خطر ضياع عنصر التعددية فيها في زمن اجتياحات العولمة المعادية لمفهوم التعارف والحوار بين الأديان والحضارات
وانطلاقاً من أن الإمارات نموذج رائد ومتميز في نشر التسامح وتعزيز مفاهيم الحوار؛ فإنها على الدوام تتحرك محلياً وإقليمياً ودولياً لإرساء الأسس الحضارية التي تعدها هدفاً معرفياً واستراتيجياً يحمل معه الكثير من النماء والآمال والطموحات لخير الإنسانية جمعاء، ذلك بمثابة تأسيس بنيوي لمنظومة أخلاقية شاملة تتبناها دولة الإمارات عملاً دؤوباً ورؤى مستقبلية، باعتبار أن العالم اليوم يموج برياح عاتية وبتفاعلات شديدة واضطرابات كارثية، الأمر الذي يدعو العالم بأسره إلى حوار الحضارات وصولاً إلى عالم يخلو من العنف والاضطراب.
ومنذ إعلان منظمة الأمم المتحدة عام 2001م عاماً لحوار الحضارات، عُقدت مؤتمرات كثيرة في دول عربية وأجنبية، كان عنوانها حوار الحضارات والتنوع الثقافي، ونشطت بعض الدول العربية في استضافة بعض هذه المؤتمرات ومنها: في القاهرة ودمشق وأبوظبي وتونس والأرجنتين ونيويورك ومدريد، وكانت منطلقات تلك المؤتمرات تسعى إلى تغليب منطق العقل واعتماد حوار الحضارات قاعدة ترتكز عليها العلاقات العالمية، لتجنب صدام الحضارات والابتعاد عن طبيعة الأحداث التي وقعت تحت أسر الصراعات الأيديولوجية، والتي تحققت من خلال منطق التعصب حيناً أو بمنطق رد الفعل أحياناً أخرى.
الصراع في العالم هو صراع مصالح وليس صراع حضارات، والدليل على ذلك ما شهدته البشرية عبر تاريخها من حروب ونزاعات شملت أصقاع الدنيا، ولذلك فإن الحوار الحضاري يتطلب المرونة والموضوعية واحترام الآخر والمبادئ العقلية، والعرب والمسلمون يحاورون الآخر بالمشترك الذي لديهم، أي القاسم الحضاري الذي لم يبخلوا به على أحد، وكان العرب والمسلمون مركز إشعاع، ولديهم من عناصر القوة الكامنة الكثير الكثير، ولا بد من العمل على إزاحة غبار السنين عنها وتفعيلها والانطلاق بها، ومن ثم العمل على تطوير وإنجاز مشروع حضاري يتابع ما انقطعنا عنه مدة عشرة قرون وهذا يتطلب تضافر الجهود المشتركة.
الديانات السماوية هي التي تبشر بالمحبة وبالإخاء وبالتفاهم وبالتسامح وإلى ما هنالك من قيم، وهذه المفاهيم وردت في تاريخنا العربي والإسلامي، وفي كل حوار يجب أن يكون هناك حوار ديني ليس على صعيد العقيدة كعقيدة، وإنما على صعيد جوهر الدين الذي هو المحبة والتسامح واحترام الإنسان، والأرض التي نعيش عليها والمجتمع الذي نعيش فيه، ومن هنا فالبشرية يمكن أن تتلاقى، فالمؤمن الذي يعبد الله يحترم الإنسان الذي خلقه الله، والمؤمن الذي يكرس حياته لله يكرس حياته أيضاً لخدمة الآخرين والإنسان، أي إنسان هو خليفة الله في الأرض، قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، وكل يعمل على طريقته في حمل رسالة الله في هذه الدنيا، وكل بالطريقة وبالإيمان الذي يعيشه.. ومن هنا يجب أن يحرّض إيمانُنا حوارنا الديني.
وكان لخروج الإسلام من الجزيرة العربية وتوجهه نحو بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط رؤية جديدة وقديرة، باعتبارها عملت على صنع حضارة متميزة أصيلة، وعلى صوغ مجتمع موحد يخضع لعقيدة واضحة عرفت الاستفادة من الآخر ضمن الأطر الإيجابية والتنوع الذي أفرز غنى وتوافقاً مع بدء ظهور مشروع الدولة، ومع استتباب الأمن والقضاء على المنازعات والخلافات القبلية، أنشأ العرب والمسلمون ثقافة وحضارة وفناً لا تزال أوروبا الحديثة مدينة لهم بها حتى اليوم، بما حفظته من آثار الحضارات السابقة وما زادته في هذه الحضارات من حياة وخصب، ولولا الحضارة العربية لاندثرت جميع الحضارات السابقة ولكان العالم الحديث غير ما هو عليه اليوم.
وظهور الإسلام وترسيخه السريع في أراضٍ آسيوية وأفريقية أثناء الفتوحات حدد بصورة حاسمة مصائر المسيحية الشرقية التي قابلت الإسلام دون مقاومة، بسبب تسامح الإسلام إزاء العبادة المسيحية وحماية المسلمين المسيحيين من تعديات إمبراطورية بيزنطة غير المتسامحة، والإسلام اعتبر الإنسان كائناً متميزاً بآلية المعرفة والحوار، وهو بهذا صاحب مكانة وله القدرة على البيان النابع عن أرقى ميادين الفكر ونهاية الإنسان موصولة بما يقوم به من عمل، والإسلام إنما يريد من الإنسان أن يقوم بالتسامح على أساس من حسن الجوار ووجوب العدل مع الجميع قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم}.
ولا تزال القوى الاستعمارية هي القابضة على إيقاد الفتن الطائفية والأهلية في جميع جهات الحصار والاحتلال، ولمراكز الأبحاث والدراسات أن ترصد بصمات تلك الممارسات الجائرة بحق الإنسانية جمعاء، خاصة التي تتجه نحو تأليب الدين ضد الدين، من خلال إشعال فتيل العصبيات في بقاع شتى من العالم وإثارة المخاوف الهندوسية ضد المسيحيين والمسلمين، وتفجير الأحقاد بين المسلمين والبوذيين، ليدخل العالم من أقصاه إلى أقصاه في حلبات الصراع الوحشي الذي يقتل الإنسان على هويته الدينية باسم الرب أو باسم حروب العدالة الاستباقية التي تقودها القوى الاستعمارية والعنصرية في العالم سراً وعلانية.
مصداقية التآخي المسيحي الإسلامي وإثبات كفاءته على جميع مستويات البناء الوطني والاجتماعي هو المدخل الذهبي لدرء مخططات الاحتلال العنصري في الأراضي العربية المقدسة ودحض الإرهاب والإرهابيين، الذين عملوا على تدمير الأماكن المقدسة والتراثية المسيحية والإسلامية وحرقوا المدن وقتلوا الأبرياء باسم الدين، بهدف تفريغ العالم العربي والإسلامي من المسيحية العربية، لما تمثله من مواقع ثقافية ومعرفية وروحية هي الأقدر على مقاومة القطع الحضاري بين الشرق والغرب، فلا معنى لخصوصية ثقافتنا وهويتنا العربية من غير التمسك بجذورها المضيئة في ثقافة المسيحيين العرب، وتراثهم الغني في حماية الشخصية العربية لا من خطر الاحتلال فحسب بل من خطر ضياع عنصر التعددية فيها في زمن اجتياحات العولمة المعادية لمفهوم التعارف والحوار بين الأديان والحضارات.
ويمكن للمسلمين والغربيين أن يتعلموا من بعضهم البعض وأن يتعاونوا في السعي لتحقيق القيم الإنسانية بهدف نشوء وبلورة وعي عالمي جديد، وهذا الوعي تحدوه الكرامة الإنسانية، وليس مقدراً على الغرب والإسلام أن يلتقيا كخصمين، فبمعرفة بعضهما من خلال مبادئ الحوار الدائم والتسامح الخلاق يمكن للغرب أن يعطي الإسلام أفضل ما لديه مقابل أفضل ما في الإسلام من معانٍ سامية خلاقة ومبادئ إنسانية راقية.
وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان يؤكد روح هذه القيم ومعانيها في مجتمع الإمارات متعدد الثقافات والتعايش السلمي، الذي يعزز الحوار البناء والتسامح الخلاق فقال: "أهم ما علينا ألا نتصارع على من ثقافة أفضل أو على الأديان، وبالتأكيد لا ينسلخ الإنسان من تراثه وتاريخه ودينه، ولا نطلب من أي أحد أن ينسلخ من عاداته وتقاليده، وعلينا أن نجتمع على ما هو خير للإنسانية..".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة