الثقافة تراجعت أمام زحف الاقتصاد والعقلية الاستهلاكية المتدنية التي تبحث عن الكم والعدد، وليس الكيف والنوعية.
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وأثناء وجودي في الولايات المتحدة انشغلت بالقراءة المعمقة حول فكرة الجامعة، وكيف تتأسس الجامعات، وكيف تتمايز وتكون هناك جامعات في القمة، وأخرى ليست كذلك، وخلصت إلى أن هناك إجماعا بين الكتاب في هذا الموضوع على أربعة عناصر أساسية؛ تحدد مستوى الجامعة وموقعها بين الجامعات هي: المنهج التعليمي، وهيئة التدريس، والمكتبة ووسائل التعليم، والتقاليد الجامعية. هذه العناصر الأربعة ليست على نفس المقام، ولا ذات الوزن، فالثلاثة الأولى يمكن شراؤها إذا توفر التمويل، ولكن العنصر الرابع، وهو التقاليد، هو العنصر الحاسم الذي يجعل هناك جامعة هارفارد، وهناك جامعة كذا التي لا يعرفها أحد.
التقاليد هي أعراف مرعية، وقواعد سلوك معتبرة، وعادات مقدرة، ونظم ولوائح وقوانين تحافظ على ذلك، ولكنها لا تنشئه، ولا تعتبر حاسمة في وجوده؛ لأن التقاليد هي التي تحدد سلوك الطالب والأستاذ والإداري وعلاقاتهم مع بعضهم البعض ومع المجتمع والعالم، وهي التي تحدد السلوك المتوقع من جميع المنتمين للجامعة، وما يقبل وما لا يقبل. التقاليد هي العنصر الحاسم الذي يحدد هوية الشخص الذي ينتمي لتلك الجامعة حتى بعد أن يتركها، فخريج جامعة كذا لا يليق به أن يفعل هذا الفعل أو ذاك.
في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي أيضا ألغى أستاذ الجيل الذي أنتمي إليه وأجيال قبله الدكتور عز الدين فودة - أستاذ كرسي القانون الدولي في جامعة القاهرة رحمة الله عليه - مناقشة رسالة جامعية بعد أن حضر الجميع إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بما فيهم أسرة الطالب التي جاءت من أقاصي الصعيد، لأن أحد أعضاء لجنة المناقشة جاء مرتديا قميصاً صيفياً نصف كم، فوقف الدكتور فودة الذي يدرك معنى التقاليد رافضا أن تبدأ مناقشة الرسالة إلا بحضور الجميع مرتدين الزي المعتبر.
في قريتنا في صعيد مصر كان من العار أن يخرج الرجل من بيته حاسر الرأس؛ بدون عمامة، أو يذهب للعزاء مرتديا جلباباً واحداً، فلابد من "جلابية" و"جبة"، والجلابية لابد أن تكون من لون واحد فاتح، وتكون من أسفل، وفوقها الجبة وهي سوداء ومن الصوف، ولابد أن تكون هناك عمامة بيضاء، و"شال" على الأكتاف في الصيف، أو "عباية" في الشتاء.
في ذلك الزمن يستحيل أن تخرج من البيت بملابس النوم حتى لو كانت جلباباً، ويستحيل أن تقابل الضيف بدون ارتداء الزي الرسمي حسب عادات المنطقة التي تعيش فيها. كانت هناك تقاليد خلقتها الثقافة المتوارثة لمعايير الذوق العام، وكان هناك ذوق عام يحدد معايير المقبول والمرفوض، وكانت هناك معايير للجمال طبقا لذلك الذوق العام، والجميع يحرص على أن يكون أجمل من حالته الطبيعية في البيت، وأكثر "شياكة" و"عيافة" و"شلبنة". والشلبنة هذه من مصطلحات رفاعة الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وصف بها الفرنسيس في حياتهم وطعامهم ورقصهم، وهي تعني "العياقة" بالمدلول الشعبي، وتعني "الشياكة" عند الطبقة المخملية.
واليوم تغير الحال وتبدل كثيرا بحيث أصبح كل ما سبق ذكره من الماضي البعيد، فلم يعد هناك ذلك الحرص على التقاليد أو الذوق العام، لأن الثقافة تراجعت أمام زحف الاقتصاد والعقلية الاستهلاكية المتدنية التي تبحث عن الكم والعدد، وليس الكيف والنوعية، وتفتخر بالأشياء حسب سعرها وليس حسب جمالها وذوقها، وتتنافس على التحلل والتحرر من كل التقاليد والأعراف والعادات.
لذلك لم يعد غريبا أن تجد الأستاذ الجامعي يمارس كل نشاطاته الأكاديمية مرتديا ملابس ابنه، أو يذهب إلى الجامعة وكأنه ذاهب إلى النادي، هذا الانهيار في الذوق العام صاحبه انهيار أشد خطورة في التقاليد الجامعية من سرقة الأبحاث إلى بيع الامتحانات والرسائل الجامعة إلى الرشاوى...الخ.
وعلى المستوى الأوسع في المجتمع العام لم تعد هناك تقاليد، ولا أعراف مرعية، لذلك انهار الذوق العام وانتشر القبح في الشكل، وفي اللباس، وفي نمط المعيشة، وأدى ذلك إلى متوالية من التراجعات في فنون العمارة، وفي فنون الديكور، والأثاث وتصميم الملابس وكل ما يستخدمه الإنسان، ولم تعد قيمة الجمال والفن مكونا من مكونات الثقافة، فقد تراجعت أمام الجائحة الاستهلاكية وعمليات "التشيؤ" التي حولت كل قيمة إلى شيء مادي يقدر بثمن.
والحال هكذا لابد من إجراءات من جميع المؤسسات المسؤولة لاستعادة الذوق العام، والعودة إلى التقاليد، أو ترسيخ تقاليد جديدة تنطلق من ثقافة المجتمع، وترتقي بهذه الثقافة. لابد من عودة الزي الرسمي الذي يحدد معايير اللباس لكل فئة من فئات المجتمع، وقد تبدأ الآن بإجراءات إدارية ومع الزمن تتحول إلى تقاليد، وهذا ما يُعمل به في جميع أنحاء العالم، إذ يستحيل أن يذهب موظف إلى عمله في أي مكان مرتديا نفس اللباس الذي يستعمله للتسوق، ولابد من أن تبدأ المؤسسات القيادية في المجتمع: الجامعات والقضاء والمؤسسات الدينية بقيادة عملية استعادة التقاليد والارتقاء بالذوق العام.
ولابد من التأكيد على أن التقاليد والذوق العام ليسا ترفا أو كماليات، وإنما هما أساس الرقي الثقافي للمجتمع، ومن يشاهد حفلات أم كلثوم سيعرف كيف أن المجتمع كان يحترم التقاليد والذوق العام، من الحاج سيد الطحان بجلبابه إلى قاطني المدينة رجالا ونساء بأزيائهم الرسمية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة