إعادة الاعتبار للثقافة تستوجب أن يتم اعتبارها من الاحتياجات الأساسية للإنسان،لأنه بها يكون إنسانا.
الثقافة بطبيعتها فضاء فسيح كالسماء؛ كلما تصاعد فيها الإنسان كلما اتسع الأفق، وزادت مساحة المجهول، وقلت مساحة المعلوم. الثقافة في حقيقتها شعلة تضيء عقل الإنسان فتنير عوالمه، ويزداد شغفه للمعرفة، وتتسع مجالات اهتمامه؛ فيصير أكثر عطشا للتعلم، وأشد شوقاً للاطلاع، وأكثر توقاً لمعرفة المزيد؛ لذلك تبدأ الثقافة عند الإنسان بالاطلاع أو بالسماع، ثم تصير عادة تدفعه لمزيد من القراءة أو السماع أو الرؤية، ويظل الإنسان كذلك في توق وشوق للتثقف والمعرفة حتى يفارق الحياة، ونار الشغف أكثر اشتعالاً في قلبه، ونور المعرفة أشد توقداً في عقله. ولا يعرف معنى الثقافة من يظن أنه بعد قراءة بضعة كتب قد أصبح عارفاً أو مثقفاً أو عالما.فهذه هي بداية مرحلة الجهل البسيط أو الجهل المركب.
في المجتمعات الصحية السليمة الطامحة في الرقي والتنوير الحقيقي يسعى الناس جميعاً نحو مزيد من الثقافة والتثقيف، ولا يخشى أحد من توسع معرفة البشر، ومن ثراء ثقافتهم، بل تشجع المؤسسات الكبرى الناس للتزود من الثقافة، وتيسر لهم سبل ذلك، وتكافئهم عليه . أما في المجتمعات التي تقف على الشاطئ الآخر من العالم فإنها تخاف من المعرفة، ومن الثقافة، ومن النور الذي يضيء العقول، لأن ذلك النور يزيح الظلام رويداً رويداً، ومعه تنداح كل قوى الظلام التي تسعى للسيطرة على العقول لتحويل الإنسان إلى روبوت أو إنسان آلي، يتم تحريكه من قبل كهنة معابد الظلام.
من يتابع الواقع الثقافي المصري خلال نصف القرن الأخير - منذ ظهور فيلم "انتبهوا أيها السادة" الذي أرخ لسحق أستاذ الفلسفة على يد الزبال، يجد أن هناك قوى سعت بكل طاقتها لمنع تدفقات الثقافة الراقية، ووقف النمو الثقافي للفرد والمجتمع؛ وذلك من أجل الوصول إلى حالة وسيطة بين الجهل والعلم، يكون فيها الإنسان نصف جاهل ونصف عالم، يجمع النقيصتين معاً، فيكون فيه انغلاق الجاهل الذي يظن أنه عالم، ورسوخ قناعة العالم الذي لا يعترف بجهله، فيصبح بذلك جاهلاً مركباً، وليس جاهلاً بسيطاً، وهو الأشد خطراً على نفسه ومجتمعه، لأن الجهل البسيط قد يتبعه علم، وقد يدفع صاحبه للتعلم، ولكن الجهل المركب يجعل صاحبه محصنا من التعلم، ورافضاً لتصحيح الأخطاء التي ترسخ في فكره، لأنه مقتنع أنه عالم بكل شيء.
وهنا يثور السؤال لماذا تكون الثقافة الباهتة mediocre culture التي تنتج جهلاً بسيطاً أو مركباً هدفاً استراتيجياً لقوى بعينها مثل السلفيين والإخوان والحزب الوطني؟ والحقيقة الواقعية تقول لنا إن الكثير من القوى ذات المصالح في التحكم والسيطرة على مجاميع بشرية كبيرة تلجأ لنشر ثقافة متوسطة المستوى باهتة المعنى، ليس فيها عمق ولا إبداع أو تميز وتدعم صانعيها ومروجيها، وتعرقل تطور ونمو الثقافة الراقية؛ وذلك من أجل خلق حالة واسعة من الجهل المركب عند جماهير كبيرة تكون مستعدة للموت دفاعاً عن الجهل المركب؛ الذي هو إدراك للواقع على عكس حقيقته مع اقتناع كامل أنها حقيقته.
هنا تتحول الجماهير إلى قطعان تسير خلف الراعي الذي يغذي فيها الجهل المركب من خلال كل وسائل الثقافة الباهتة التي غرستها الجماعات الدينية منها الإخوان والسلفيين أو الأحزاب السياسية مثل الحزب الوطني. هؤلاء جميعاً يحرصون على ضحالة الثقافة عند أتباعهم، وضمان عدم تعمقهم في أي مجال من المجالات؛ حتى أن بعض هذه الجماعات تحدد للأعضاء ماذا يقرؤون من الكتب، ولا يملك أي عضو أن يقرأ خارج القوائم التي تضعها الجماعة، وذلك لضمان وجود ثقافة ضحلة باهتة مليئة بالخرافات والأكاذيب والمؤامرات والأعداء، والقصص الوهمية التي تشيطن الخصوم، وتحول الأتباع إلى ملائكة أطهار، وهذه كانت من أنجح الوسائل لضمان تماسك الجماعات.
وبعد انتهاء هذه الحقبة بكل ما فيها ومن فيها، وانتقال مصر إلى مرحلة جديدة تشهد إنجازات في جميع المجالات غير مسبوقة منذ نصف قرن، وبعد انطلاق دورة النهوض الحضاري الثالثة لمصر بعد محمد علي باشا وجمال عبد الناصر، بعد كل هذا التحول التاريخي الكبير لابد من إعادة الاعتبار للثقافة الحقيقية العميقة التي عبر عنها ابن منظور الأفريقي المتوفي 1311 م، في موسوعته اللغوية "لسان العرب"، حين عرف الثقافة بقوله "غلام لقن ثقف أي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه". فالثقافة في جوهرها هي ثبات المعرفة العميقة لكل إنسان بما يحتاج إليه في مكانه وزمانه وبيئته وتخصصه واهتماماته.
إعادة الاعتبار للثقافة تستوجب أن يتم اعتبارها من الاحتياجات الأساسية للإنسان، لأنه بها يكون إنسانا، لذلك هي في نفس الأهمية مثل السلع التموينية، لأن حياة العقل مثل حياة الجسد، وهذا يعني أن تبدأ عملية إعادة الاعتبار للثقافة من المجتمعات الصغيرة، والمحلية في القرى و"النجوع" والحواري والأحياء الصغيرة، والوسيلة لذلك تفعيل قصور الثقافة التي نشأت في عهد عبد الناصر والتوسع فيها بما يتناسب مع زيادة عدد السكان وتوسع العمران، ثم استرداد دور الدولة في إنتاج الدراما والسينما بصورة تتناسب مع العصر الحالي، وهنا نحتاج أن ندرس تجارب تركيا التي سوقت مشروع العثمانية من خلال الدراما، وكذلك صناعة السينما في الهند "بوليوود" ، وفي نيجيريا "نولليوود".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة