لا تعرف الآلية التي تجعل الرافضين للمعاهدة يتجاهلون التدخلات السافرة لدول كتركيا التي تحتل مناطق واسعة في شمال سوريا.
لا يوجد حقيقة ما يدفع لرفض توجه الدول العربية إلى السلام مع إسرائيل، إن كان لا يتعارض مع حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على أساس سلام أبرموه هم أنفسهم معها في أوسلو عام 1993، صحيح أن ذلك الاتفاق لم ينفذ كما كان متوقعاً، ولكن القطيعة مع تل أبيب لم تغير في واقع الحال شيئاً، لم تحثها على إتمام التزاماتها، ولم تردعها عن التوسع في مخططات الضم والاستيطان.
أسباب تدهور القضية الفلسطينية كثيرة، والحديث عنها يحتاج إلى كثير من الحبر والورق، واختصارها بتخوين الدول العربية هو أشبه بتغطية الشمس بأصبع اليد، أو محاولة لتضليل الرأي العام بأوهام تخدم أجندات دول أجنبية محتلة لأراض عربية، ليس لأن أصحاب هذه الأوهام يجهلون ما يجري، وإنما فقط لأنهم يخشون فقدان مكاسب سياسية أو مادية تجلبها المتاجرة بالقضية.
لا ضير في تسمية الأشياء بمسمياتها، فتركيا وإيران دولتان أجنبيتان تحتلان دولاً وعواصم ومناطق عربية، وفي الوقت ذاته تقودان جبهات التخوين للسلام الإماراتي والبحريني مع إسرائيل، الناطقون باسم هاتين الدولتين في المنطقة العربية من أنظمة وإعلام وساسة وحتى ذباب إلكتروني يطبلون لأنقرة وطهران، ويروجون لهما كفارسي الدفاع عن القضية الفلسطينية والحق الفلسطيني.
لا تعرف الآلية التي تجعل الرافضين للمعاهدة يتجاهلون التدخلات السافرة لدول كتركيا التي تحتل مناطق واسعة في شمال سوريا، وتسيطر على العاصمة الليبية طرابلس وجوارها، وتهيمن على قطر، وتحتضن تنظيم الإخوان، وتنتهك سيادة العراق براً وجواً ونهراً كلما أرادت ذلك.
هي مجرد ازدواجية في معايير تصنيف الأعداء والحلفاء بالنسبة للواهمين في المنطقة العربية، أو بتعبير أدق بالنسبة للانتهازيين من أصحاب المصلحة مع أنقرة وطهران، والضحية هم هؤلاء الذين ينتظرون حرباً "مقدسة" يعد لها محور "المقاومة" على إسرائيل منذ عقود، أو ينتظرون عودة الاحتلال العثماني إلى المنطقة العربية، أو ربما معجزة تعيد صياغة المعادلات السياسية العالمية.
أصحاب الفئة الأولى من الضحايا قد لا يحظون بفرصة مراجعة ذواتهم والتعبير عن كللهم وسآمهم من المقاومة الدونكشوتية لإيران وأتباعها في المنطقة، فهم يعيشون تحت وطأة سلاح ميليشيات طهران وتهديداتها، ومن أدرك فيهم أكاذيب نظام الولي الفقيه في هذا الشأن، يكابر بعدم الاعتراف حرصا على مصالحه المادية، أو مصالح طائفية أو حزبية ضيقة لا تسمن ولا تغني من جوع.
بالنسبة للحالمين بعودة الاحتلال العثماني فقد تخلوا عن انتماءاتهم الوطنية واتبعوا أجندة تركيا الخارجية، إما بوصفها الراعي الرسمي لحركة الإخوان المسلمين في العالم، أو طمعا بمصالح مادية يحصدونها عبر المتاجرة بقضايا دولهم في أسواق السلطان رجب طيب أردوغان، في الحالتين لا يكترثون إلى أين تمضي المنطقة العربية والشرق الأوسط عموما أمام موجات الأطماع التركية المتزايدة.
ومع انتهاء زمن المعجزات الإلهية على كوكب الأرض، كان لزاما على الدول أن تبحث عن معجزاتها الخاصة في السياستين الداخلية والخارجية، كي تحافظ على اقتصادها وأمنها، هذا طبعا يتطلب تحديد المصالح العليا لها، وتحديد أولوياتها الاستراتيجية في التحالفات واختيار الأفضل والأصلح والممكن لشعوبها.
هذا تماماً ما فعلته الإمارات والبحرين في إبرام معاهدات السلام مع إسرائيل، اختارتا من بين الخيارات ما وجدتاه الأفضل لشعوبهما، وتحملتا بكل جرأة قرار الرهان على قدرتهما بتغيير المعادلات السياسية للمنطقة والعالم ككل، تجري الرياح بما تشتهي سفن الدولتين في هذا الشأن، والدليل أن سلامهما مع إسرائيل أثار سخط خصومهم، وأربك حساباتهم في توقع ما هو قادم للشرق الأوسط.
الإمارات كان لها سبق فتح الباب أمام السلام في الشرق الأوسط بآلية جديدة كان يخشاها كثيرون، وعندما يقول الرئيس الأمريكي إن دولاً عدة في المنطقة، تستعد للحاق بركب السلام مع إسرائيل، فهذا يعني بالضرورة أن الخطوة الإماراتية بدأت فعلا بإحداث تغيير في معادلات التحالفات والتفاهمات التي حكمت علاقة الوطن العربي مع جواره والعالم ككل لعقود طويلة دون تغيير.
ما جنته الإمارات على وجه الخصوص من معاهدة السلام حتى الآن يبشر بالكثير، فأول الغيث كان تجميد خطط الضم الإسرائيلية لمناطق الضفة الغربية الفلسطينية، وكل الاتفاقات والصفقات التي أبرمها البلدان تقول إن الجميع على موعد مع كثير من المنفعة الاقتصادية والطبية والتقنية، ليس بعد عقود، وليس من خلال الأوهام، وإنما عبر شراكات حقيقية.
هنا يكمن الفارق بين الدول في قراءة الواقع واستشراف المستقبل، فثمة من يجربُ المجرب حتى يلوك الوقت ويبيع الوهم للناس، ودول أخرى تطرق الأبواب الواحد تلو الآخر بحثا عن غد أفضل لشعوبها ومكانتها على الخارطة العالمية، هذه الدول لا تريد الحرب إلا في حال الدفاع عن شعبها وسيادتها، وقد اختارت السلام لأنه أقصر الطرق إلى استقرار المنطقة وإحلال الأمن والأمان فيها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة