الشفافية والرغبة الحقيقية في تصفية المشكلات العالقة، تمهدان الطريق لبدايات حقيقية جديدة، وهذا ما كان من شأن الدور الإماراتي على صعيد استنقاذ ما تبقى من فرص لحل النزاع الذي طال.
بعد أيام قليلة من توقيع معاهدة السلام بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل في العاصمة الأمريكية واشنطن، يعن للمرء أن يتساءل :" هل نحن على مشارف عصر من التحولات الكبرى في الشرق الأوسط؟ عصر تكون الإمارات في القلب منه، وتحمل سيادة وريادة لمنظور آخر ظل مهيمنا طوال عقود من الصراعات والحروب، الموت والدمار، واستبدال سلبيات الماضي بإيجابيات خلاقة ؟
يمكن من دون أدنى شك المصادقة على الكلمات التي غرد بها وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش منذ أيام، وذلك حين أشار إلى أن التطورات المتسارعة في المنطقة مؤشر واضح نحو ضرورة مراجعة استراتيجيات لم تؤت ثمارها، ونبذ سياسة المحاور التي قادت إلى فكر المحاصصة وتقسيم الشرق الأوسط إلى فسطاطين متناحرين .
يحتاج المشهد في المنطقة رؤية فلسفية عميقة تأخذنا لفهم ما يجري، ذلك أن البدايات الجديدة دائما وأبدا تحمل في طياتها فرصا حقيقية، وصناعة المستقبل لا يمكن أن تكون أداتها استنساخ تجربة الماضي، خاصة إن أخفقت في تحقيق أهدافها.
ما فعلته الإمارات العربية المتحدة فتح "طاقة" من الأمل، ومهد الطريق لأوضاع جديدة، حكما يمكنها إن خلصت النوايا، أن تمهد لحلول سياسية تعزز الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة .
هل غيرت الإمارات الأوضاع وبدلت الطباع عبر اختراقها الاستراتيجي الأخير؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك قولا وفعلا، وقد كانت هناك حاجة ماسة لمثل هذا الاختراق، وضرورة حتمية لإيجاده من أجل العبور من حالة الجمود والتكلس إلى مسارات السيولة والحركة، وهنا علينا أن نتذكر أبدا ودوما أن مراجعة التوجه، لا تعني بالضرورة تغيير الأهداف، وإنما مقاربتها بشكل مختلف .
هل لنا أن نطبق هذا المنظور على القضية الفلسطينية بنوع خاص؟
بعد نحو ثمانية عقود من الصراع العربي – الإسرائيلي، بدا وكأنه من الحتمي إيجاد مسارات مغايرة للنضال، والذي بات مفهومه متغيرا كما مفهوم القوة، فالأخيرة لم تعد خشنة عسكرية حربية صدامية فحسب، إذ ظهر مفهوم القوة الناعمة، والقادرة على تغيير الكثير من الثوابت في حاضرات أيامنا .
وبالقياس عينه، بات النضال بالسلم ربما لا يقل أهمية عن إدارة المعارك بالحروب والنار والبارود .
أفضل ما في المشهد الإماراتي – الإسرائيلي الحالي، وضوح الرؤية التي تبنى عليها المعاهدات الجديدة، والتطابق بين ما يقال ويكتب باللغات المختلفة، وبين ما هو منشود الوصول إليه، فالشفافية والرغبة الحقيقية في تصفية المشكلات العالقة، تمهدان الطريق لبدايات حقيقية جديدة، وهذا ما كان من شأن الدور الإماراتي على صعيد استنقاذ ما تبقى من فرص لحل النزاع الذي طال .
هل حقا هو عصر التحولات الكبرى؟
المقطوع به أن أي فعل إيجابي، يعزز عوامل الثقة بين أطراف غابت عنها المودات الإنسانية طويلا جدا، ولهذا فإن أنفع وأرفع ما تفعله الإمارات بمبادرتها تلك، هو أنها تعزز من تيار السلام ومعسكره في الجانب الإسرائيلي، فمن خلال اليد الإماراتية التي تمتد إلى الداخل الإسرائيلي، حكما ستخلق هناك وجهات نظر جديدة عن العرب والمسلمين الشرق أوسطيين، ما سيمثل ضغطا كبيرا ولاشك على المعسكر اليميني المتطرف والرافض للسلام .
في هذا السياق يمكن القول إن نقط الماء المستمرة والمستقرة فوق الصخر يمكنها أن تفتت أعتى عقبة طبيعية أو صناعية، وليس أدل على صدقية هذا التوجه من أن بنيامين نتنياهو هو أول رئيس حزب لليكود في إسرائيل يقبل بحل الدولتين، وإن وفقا لرؤية استراتيجية معينة .
ما فعلته الإمارات في واقع الحال ينتشل السلام الشرق أوسطي من قلب دائرة قدرية تبدأ من عند الإرادات المتصارعة، لتصل إلى أقدار متصادمة، والانتشال هنا يمضي في طريقين:
أولا: عربيا، إذ يعطي فرصة جديدة لاكتشاف آليات وطرائق أخرى من خارج صندوق الأفكار المعولبة والمقولبة لحل القضايا التاريخية المتكلسة، أي أنه يسعى خارج الصندوق التقليدي، ويتيح مجالا لتفكير عقلاني، فنحن العرب عاطفيون ورؤوسنا ساخنة، والرؤوس الساخنة تعاني من حمى شبه دائمة تحول بينها وبين التفكير العقلاني البارد.
ثانيا: إسرائيليا، إذ تفتح الإمارات الباب أمام إسرائيل من جديد كما فعلت مصر من قبل أربعة عقود، لكي تثبت جدارتها في النضال السلمي المقابل، بعد أن توافرت لها أجواء اعتراف متبادل وعلاقات اعتيادية وبدء مرحلة جديدة من التعايش السلمي والتعاون المشترك بين العرب وإسرائيل في كافة المجالات الاقتصادية والتجارية ،السياحية والعلمية، التكنولوجية والثقافية والاجتماعية .
تضعنا معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية، ومن قبلها سابقتها المصرية أمام تساؤل فلسفي مهم وحاسم :" هل الصراع العربي الإسرائيلي قدر مقدور في زمن منظور؟
عند الفيلسوف الألماني " إشبنجلر"، التاريخ الإنساني ليس خطا مستقيما إلى التقدم، بل هو دورات متعاقبة من النمو والانحلال، وكل حضارة هي أشبه بإنسان يولد وينمو وينضج ثم يشيخ ويموت.
على أن المؤرخ البريطاني "أرنولد توينبي" يفيدنا بأن القوى الحاضرة استفادت من خبرات التجارب السابقة، خلال دورات الحياة الحلزونية، ولهذا غالبا ما ستعرف الأجيال الجديدة كيف لها أن تتجاوز المطبات التي تعترض طريق سيرها، وتتفادى أخطاء السابقين، فالبشر لا يجب أن يكونوا محكومين بالموتى، كما يخبرنا الفيلسوف الايرلندي " أدموند بيرك، بل برؤى الأحياء وآمال الأجيال القادمة.
تدعونا مبادرة الإمارات للخروج من سياقات المغالطات القديمة والمتهالكة عن الشرق الذي لا يتغير، والملتصق في ماضي لا يمكن تبديله، أو حسبما أورد البروفيسور "إدوارد سعيد" بشكل مشهور محدود في الحالة الثابتة، لشيئ تجمد مرة وإلى الأبد في رحاب الزمن".
حين نقول عصر التحولات الكبرى فإننا لا نغالي، ذلك أنها تحدث بفعل قوانين التطور ذاتها، تغييرات كمية تتراكم بعضها مع بعض، ويحدث تراكمها تفاعلات تؤدي في لحظة من اللحظات إلى محاولات جادة لفتح طرق ودروب ومسالك تعوض عن الانسداد التاريخي الذي صار .
الشرق الأوسط مدعو لبناء مجتمع مؤنسن بشكل حقيقي، وأمامه اختبار سلام حقيقي، والفضل للإمارات .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة