ماذا تنتظر أحزاب السلطة حتى تغير مواقفها وتتخلى عن المفاهيم القديمة للمحاصصة الطائفية؟ لا سيَّما وأن أي رئيس وزراء مُكلف سوف يحرص على تمثيل مكونات المجتمع اللبناني وطوائفه، ولكن وفقاً لمعايير الكفاءة والاقتدار.
انتهت فترة الأسبوعين التي كان رؤساء الأحزاب والكتل السياسية في لبنان قد اتفقوا عليها لتشكيل الحكومة الجديدة دون أن يتحقق شيء، بل ولم يتم الإعلان عن موعد جديد. وتعود أهمية هذه الفترة إلى أنها كانت أحد أسس الاتفاق الذي تم بين هؤلاء القادة والرئيس الفرنسي ماكرون وهو الاتفاق الذي يتم بمقتضاه ضخ المعونات الاقتصادية لإنقاذ لبنان من الانهيار.
أشار البيان الذي صدر في أعقاب الاجتماع بين رئيس الوزراء المُكلف السفير "مصطفى أديب" ورئيس الجمهورية "ميشال عون" إلى التريث في الإعلان عن الحكومة الجديدة. وتضاربت الأنباء حول ما إذا كان السفير أديب قد أعد بالفعل أسماء الوزراء لعرضها على الرئيس أم لا، كما اختلفت التعليقات حول مواقف الأحزاب والقوى السياسية تجاه الجهود التي يقوم بها أديب لتشكيل الوزارة في أعقاب استقالة حكومة حسان دياب في 10 أغسطس 2020 واستمرارها كحكومة تصريف أعمال.
السبب الجوهري في تعثُّر تشكيل الحكومة الجديدة هو الصراع بين توجهين رئيسيين، التوجه الذي يمثله أديب وقوى التغيير والحراك الشعبي الذي يسعى لتشكيل حكومة كفاءات صغيرة العدد، يكون معيار اختيارها الجدارة والاستحقاق والقدرة على تنفيذ مهام محددة، وهذا الاتجاه يحظى بدعم المجتمع الدولي ومجموعة الدول المانحة.
والتوجه الثاني الذي يمثله ما تسمى بأحزاب السلطة وفي قلبها حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر والتي تُصر على تشكيل الحكومة وفقاً لقواعد "المحاصصة الطائفية" التي أوصلت لبنان إلى ما انتهى إليه من أزمات وانهيارات. وهذا التكتل الذي يمثل التحالف بين الشيعة وجزء من المارونيين هو الذي سيطر على الحياة السياسية في لبنان في السنوات الأخيرة، واستطاع أن يمنع انتخاب رئيس جمهورية لمدة سنتين ونصف (إبريل 2014-أكتوبر 2016) وهي الفترة المعروفة باسم "الفراغ الرئاسي" وذلك حتى يضمن الموافقة على مرشحه للرئاسة وهو الرئيس عون.
يدل على ذلك إعلان كل من التيار الوطني الحر وحركة أمل عدم رغبتهما في المشاركة في الحكومة. وذلك على الأرجح بسبب عدم قبول أديب لتخصيص وزارت بعينها لهما. لقد طالبت حركة أمل بأن يتولى وزارة المالية شيعي، كما كان العهد من قبل، وهو الأمر الذي تحفَّظ عليه رئيس الوزراء المُكلف لاعتقاده بأنه لا يجوز تخصيص وزارات بعينها إلى أحد الطوائف.
وتنتقد أحزاب السلطة السفير أديب بأنه لم يقُم باتصالات ومشاورات معها لاستطلاع وجهات نظرها حول الأسماء والترشيحات كما جرى عليه العمل من قبل. أما هو فيرى أن هذه الوزارة يتم تشكيلها في ظروف استثنائية للغاية، يقف فيها الاقتصاد اللبناني على حافة الإفلاس، وأن الرئيس ماكرون اتفق مع رؤساء الأحزاب على روشتة علاج تتضمن تنفيذ عدد من الإجراءات الاقتصادية المُلحَّة تتولاها "حكومة مهام"، وأن تنفيذ ذلك شرط لتدفق المساعدات الخارجية على لبنان. بناءً على ذلك، فإن رئيس الوزراء المُكلف يريد أن يتمتع بحريته في اختيار أفضل الكفاءات اللبنانية المؤهَّلة لتولي الوزارة في هذه الظروف بغض النظر عن هوياتها الطائفية، ولا يريد أن يقيد نفسه باختيارات حزبية طائفية خاصة، وأن أحد أهم مهام الحكومة الجديدة هي محاربة الفساد وتعقب ملفات الفاسدين، ووقف ممارسات الانحراف المالي وتوزيع الغنائم التي استمرت لسنوات في عهد الوزارات السابقة التي تكونت بالتشاور مع هذه الأحزاب الطائفية.
جوهر الأزمة أو المُعضلة في لبنان إذاً ليس الخلاف حول أسماء بعينها، ولكنه الاختلاف بشأن المعايير التي ينبغي أن يتم اختيار الوزراء وفقاً لها. والصراع محتدم بين توجه جديد يتجاوب مع مطالب الشارع اللبناني وتطلعات الشباب والقوى الجديدة من اللبنانيين، الذين يدعون لإخراج بلادهم من شرنقة الطائفية إلى آفاق المواطنة والدولة المدنية الحديثة، وتوجه آخر طائفي له مؤسساته ومصالحه الضاربة في جذور المجتمع، وهو التوجه الأكثر قوة وتنظيماً وهو الذي يمسك بأطراف السلطة السياسية. ويتسم سلوك هذا التوجه بالإنكار وعدم استيعاب دروس الانهيار المالي والاقتصادي، ولا ما حدث في الانفجار المُروع في مرفأ بيروت في 4 أغسطس الماضي وتداعياته الاجتماعية والنفسية على اللبنانيين.
فماذا تنتظر أحزاب السلطة حتى تغير مواقفها وتتخلى عن المفاهيم القديمة للمحاصصة الطائفية؟ لا سيَّما وأن أي رئيس وزراء مُكلف سوف يحرص على تمثيل مكونات المجتمع اللبناني وطوائفه، ولكن وفقاً لمعايير الكفاءة والاقتدار. ربما يكون السبب في التلكؤ والمماطلة هو الرغبة في كسب الوقت وإطالة أمد المباحثات ولكنه سبب غير مقنع. والأرجح، أنهم يعتقدون أن الشعب اللبناني أصبح رهينة في قبضتهم ويراهنون على أن استمرار تدهور أوضاعه سوف يمثل عامل ضغط على فرنسا والدول المانحة لإرسال مساعداتها دون أن يتم إجراء الإصلاحات المطلوبة.
في حالة تجاوب أحزاب السلطة مع هذه المبادرة، فهل يكون هذا التجاوب خطوة تكتيكية لمنع العقوبات الاقتصادية على لبنان أم تكون بداية لمرحلة جديدة؟ وكل الاحتمالات مفتوحة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة