الدولة الوطنية العربية هي التي تتحكم في مسار العلاقات مع إسرائيل؛ ولم يكن ذلك يعني التخلي عن القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين.
منذ نشأة الصراع العربي الإسرائيلي عام ١٩٤٨ مر بمرحلتين: الأولى كانت وجودية تقوم على نفي كل طرف من أطراف الصراع للآخر، فكانت إسرائيل لا تعترف بوجود "شعب فلسطيني"؛ وكانت الدول العربية لا تعترف بوجود إسرائيل. بعد حرب عام ١٩٧٣ تغيرت المعادلة لكيلا تصير وجودية وإنما يدور التنافس والخلاف وحتى الصراع على شروط التعايش بين الطرفين. وخلال هذه الفترة التي مضى عليها الآن ٤٧ عاما مرت المنطقة بثلاث موجات من أجل صياغة عملية التعايش هذه، كانت الأولى منها عندما بدأت المفاوضات بين مصر وإسرائيل، وهذه الأخيرة وسوريا، للفصل بين القوات وكانت ذروتها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية والتي سبقها اتفاق كامب دافيد الذي اعترفت فيه إسرائيل بوجود قضية فلسطينية قائمة على حق الشعب الفلسطيني في كيان سياسي. حدث ذلك بعد اعتراف الدول العربية في مؤتمر القمة عام ١٩٧٤ بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني. الموجة الثانية جرت في أعقاب حرب الخليج لتحرير الكويت عندما انعقد مؤتمر مدريد الذي حضرته منظمة التحرير كجزء من الوفد الأردني، ولم يمض وقت طويل حتى عقدت المنظمة مع إسرائيل اتفاق أوسلو حيث جرى الاعتراف المتبادل بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ومن بعده عقدت معاهدة السلام الإسرائيلية الأردنية. نتيجة الاتفاقية الأولى كان قيام أول سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية في التاريخ، واندرجت في عملية تعاون واسعة النطاق مع السلطة الإسرائيلية فيما يشبه اتحادا جمركيا بين الطرفين.
الموجة الثالثة هي ما نعيشها اليوم مع توقيع معاهدات السلام بين دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى. وكما هو الحال مع الموجتين السابقتين فإن الموجة الجديدة بنت عصرها وزمنها والبناء الإقليمي والدولي الذي حدثت في ظله. هي بالتأكيد صعود جديد في منحنى العلاقات العربية الإسرائيلية، ولكنها في نفس الوقت متميزة بالظروف التي جرت خلال السنوات العشر الماضية والتي ترتب على ما جرى فيها من عنف داخلي في عدد من الدول العربية، وتدخلات إقليمية عدوانية وشرسة وخاصة من إيران وتركيا، وفيما يخص إسرائيل كان السعي لمزيد من ضم الأراضي الفلسطينية. مواجهة ذلك من قبل الدول العربية التي نجت بإرادة أهلها وقياداتها من لهيب ما سمي "الربيع العربي" ونتائجه في التطرف والإرهاب على التوجه نحو ثلاثة أمور: أولها بناء الدولة الوطنية، وثانيها الإصلاح الداخلي العميق، وثالثها السعي إلى قيام للأمن الإقليمي في المنطقة يقوم على التعاون والسلام والمصالح المشتركة.
وإلى هذا الأمر الأخير تنتمي الموجة الثالثة للسلام في المنطقة التي سبقها تطوير سلام الموجة الأولى، بحيث يعمق علاقات التعاون في منطقة شرق البحر المتوسط من خلال الفوائد المشتركة لاستخراج وتصنيع الغاز في المنطقة. وكانت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية قد قدرت احتياطي الغاز الطبيعي في البحر المتوسط في عام 2017 بما يتراوح بين 340-360 تريليون قدم مكعب بقيمة مالية تتراوح بين 700 مليار دولار و3 تريليونات دولار. وفي يناير 2019، أنشأت مصر وقبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية منتدى غاز شرق المتوسط في محاولة لإنشاء سوق غاز إقليمي وتقليل تكاليف البنية التحتية. وفي حين أن دول شرق البحر الأبيض المتوسط لديها مشاريع طموحة لكسب موطئ قدم في السوق الأوروبية بصادرات الغاز الطبيعي، يبحث الاتحاد الأوروبي "EU" عن بدائل لاعتماده على الغاز الروسي، حيث تعد روسيا ثالث أكبر منتج للنفط والغاز في العالم. يتمثل أحد هذه المشاريع التي يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تحقيقها في إنشاء خط أنابيب بحري مباشر بين مصر وقبرص لنقل الغاز الطبيعي من حقل أفروديت للغاز في قبرص، والذي يحتوي على ما يقرب من 129 مليار متر مكعب من الغاز، إلى مصانع التسييل في مصر ثم إعادة تصديرها إلى السوق الأوروبية. وبالفعل وقعت مصر وقبرص اتفاقية في سبتمبر 2018 لإنشاء مشروع خط الأنابيب البحري. وفي نفس الوقت اتفقت شركة "مالفيناس" المصرية مع شركة نوبل الأمريكية المنتجة للغاز من حقلي الغاز في إسرائيل – تمارا وليفياثان - على شراء ما يوازي ١٥ مليار دولار من الغاز الإسرائيلي لكي يتم تسييله في المصانع المصرية وتصديره أو استخدامه في الصناعة المصرية. وعقدت شركة شل اتفاقا مماثلا بمقدار ٢٥ مليار دولار بحيث يمكن استخدام أنابيب شركة شرق البحر الأبيض المتوسط لنقل وتسييل الغاز الإسرائيلي وتصديره بطريقة مماثلة. كلا الاتفاقيتين يجري تنفيذهما خلال السنوات العشر المقبلة.
المعاهدات الإماراتية والبحرانية مع إسرائيل تعبر عن أشكال أخرى من التعاون الإقليمي الذي يقدم نموذجا سلميا لعلاقات جديدة في إقليم مرهق بالصراعات الدامية. وربما كان وزير الاقتصاد الإماراتي عبد الله بن طوق المري ممن عبروا عن هذا الاتجاه عندما ذكر في حديث صحفي في أعقاب حفل توقيع المعاهدة أن "كلا البلدين (الإمارات وإسرائيل) سوف يجلبان عقليات مختلفة إلى الطاولة، ومزايا مختلفة، وأعتقد أن المنطقة بأكملها ستستفيد من هذه المعاهدة". وقال بن طوق إن بلاده وإسرائيل ستتعلمان من بعضهما البعض بعد أن تم التوصل إلى "اتفاق شامل". وأضاف: "سيتم تنفيذ جميع الاتفاقيات الأخرى، من الطيران ومن الخدمات اللوجستية ومن التكنولوجيا." وأشار إلى "إنهم يتعلمون منا عن الخدمات اللوجستية والمحاور، ويتعلمون منا عن السياحة والاتصال". و"سوف نتعلم منهم الكثير في الطاقة والمياه والفضاء أيضًا. وهذه هي المجالات التي نحن في الواقع متحمسون للغاية لها ". هذا المنهج في ترجمة المعاهدات الجديدة يعكس من ناحية منهجا جديدا في التعامل المباشر مع إسرائيل ودول المنطقة الأخرى على أساس من المنافع المتبادلة سواء كانت هذه المنافع أمنية أو اقتصادية. وفي الحقيقة فإن هذا المنهج له أصول سواء كانت في الموجة الأولى أو الثانية للسلام في المنطقة حيث نصت كافة اتفاقيات السلام من المصرية إلى الأردنية إلى الفلسطينية على أشكال كثيرة من التعاون تجسدت كلها في مشاريع مفصلة خلال المفاوضات متعددة الأطراف التي انعقدت في أعقاب مؤتمر مدريد واستمرت حتى عام ٢٠٠٠، وتمخضت عنها مؤتمرات اقتصادية ومشروعات للتعاون في مجالات المياه والطاقة والتعامل مع مشاكل اللاجئين. ولكن هذه النوايا والمشروعات لم يقدر لها التنفيذ نظرا لأنها وقعت رهينة تعليق التعاون على موافقة أكثر العناصر الفلسطينية تطرفا؛ والتي سرعان ما جعلت القضية كلها مستحيلة، بعد نشوب حروب بين إسرائيل ولبنان، وإسرائيل وقطاع غزة الذي انفصل بشكل كامل عن السلطة الوطنية الفلسطينية.
في موجة السلام العربية الثالثة فإن الدولة الوطنية العربية هي التي تتحكم في مسار العلاقات مع إسرائيل؛ ولم يكن ذلك يعني التخلي عن القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين المشروعة، وإنما تجنب الوقوع في أهواء القيادة الفلسطينية التي تعيش في عالم آخر يجعلها تتصور القدرة على التحكم في مصير الدول العربية الأخرى وحتى في قرارات الجامعة العربية. فالحقيقة أن المبادرة الإمارتية هي التي أدت إلى وقف عملية ضم أراضي فلسطينية جديدة إلى إسرائيل وليس قدرات القيادة الفلسطينية ولا حتى مواقف دول أخرى في الإقليم. وكما هو واضح فإن مصر قد ضمت السلطة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل في منتدى شرق البحر المتوسط فيما يعد اعترافا ضمنيا من جانب إسرائيل بالحدود البحرية للكيان السياسي الفلسطيني أي للدولة الفلسطينية عند إشهارها. ولا يزال في الأمر الكثير من التفاصيل الأخرى، فالسؤال هو: ثم ماذا بعد؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة