المجتمع السياسي التونسي ظل عقوداً من الزمن؛ ومنذ الاستقلال، مثالاً للعلمانية، مبادئاً وتطبيقاً، وترسّخت ثقافتُه على البنى العلمانية.
حركة النهضة الإخوانية في تونس على أعتاب انفجار داخلي. هذه المرة جاءت أسباب تَرنّحها من داخلها؛ وبالتحديد من داخل بنيتها التنظيمية الأيديولوجية متمثلة بكتلة من أعضائها الذين ظلوا يتسترون خلف أصابعهم كي لا تكون نهاية حركة النهضة سريعة، ولكي يتمكنوا من توفير الظروف داخل الحركة للانقضاض على زعامتها. التفجر الذاتي الذي بدأت ملامحه تظهر على الملأ مصدره ومحرضُه الصراع على السلطة، صراعٌ متعدد الوجوه ظل كامناً بحكم النرجسية والتقوقع على الذات الذي يشكل علامةً فارقة لتنظيم الإخوان المسلمين أينما كان ملعبه. عريضةُ المئة قيادي في الحركة الذين وجهوها لراشد الغنوشي طالبين منه عدمَ الترشح لرئاسة الحركة مجدداً في المؤتمر المقبل تنطوي على أبعاد ذات أهمية خاصة، داخلية وحزبية ووطنية، محورُها التهالكُ الذي ضرب أوصال حركتهم الإخوانية بعد أن تعرّت طروحاتُهم وادعاءاتُهم بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبعد أن فَضَحت ممارساتهم داخل البرلمان وفي القطاعات الوطنية وعلى المستوى الحكومي؛ مكنوناتُ قياداتهم ونزعاتُهم الذاتية وشغفهم بالاستيلاء على السلطة، والتماهي مع متطلبات ومقتضيات تنظيمهم الدولي الإخواني على حساب المصالح الوطنية للشعب التونسي.
ولمّا كانت حركاتُ الإسلام السياسي بغالبيتها، وعلى رأسها تنظيمُ الإخوان المسلمين، تحملُ بذرةَ فنائها بداخلها بسبب عقيدتها الأيديولوجية القائمة على تجاوز الحدود الوطنية في معايير سلوكها السياسي والحزبي، وذهنيتها الإقصائية، وتبرير نهجها العنفي بضرورات تحقيق أهدافها، فإن البعدَ الداخلي ظل على الدوام سبباً جوهرياً في الصراعات التي تشهدها مثل تلك الحركات إما بدوافع الاستيلاء على السلطة، أو تلبيةً لإيحاءات رُعاتها الخارجيين، وفي جميع الأحوال يسوقون حججاً واهيةً للتعمية على نزعاتهم وممارساتهم كما هو حاصل داخل حركة النهضة الإخوانية في تونس، حيث يحاول الموقعون على العريضة الرافضة لبقاء الغنوشي على رأس الحركة، تسويقَ مبادئ الحركة ونظامها الداخلي كمبرر لتوجههم كي يبدو الأمرُ مرتبطاً بنصوص تنظيمية فقط ولايتعلق بالفشل الحزبي والبرلماني والوطني، الذي وَسَم محطات الحركة في مختلف مواقع حضورها ومراحلها على الساحة التونسية، وربما يكون البعدُ الوطني السببَ الأكثر تأثيراً على تماسك الحركة من الداخل بعد الانتفاضة البرلمانية ضدها وضد رئيسها الغنوشي بصفته رئيساً للبرلمان وفي ظل افتضاح نهجها السياسي وطريقة تعاطيها مع المؤسسات التنفيذية الحكومية، وسعيها لإضفاء طابع الهيمنة والاستئثار بمجمل عناصر المشهد التونسي انطلاقاً من تقييمات وحسابات حزبية بعيداً عن المعايير الوطنية التي يحددها الدستور ويكفلها . يمكن فهمُ تسريب العريضة وعدم تداولها رسمياً بشكل معلن سواء داخل أروقة الحركة أو عبر السياقات الرسمية في إطار الابتزاز الذي يمارسه تيارٌ داخلها ضد تيار آخر، ولا يغيب أيضاً مزاجُ الرأي العام التونسي بغالبيته الرافض لسياسات ونهج الحركة على المستويين الداخلي والخارجي، ولعل ردودَ الفعل الغاضبة على زيارات الغنوشي لتركيا ومحاولاته جرّ تونس إلى اصطفافات ذات طابع إخواني صرف في الساحة الليبية، من خلال دعم توجه ومخططات أردوغان، خيرُ دليل على حجم الاحتقان الذي يعيشه التونسيون ضدها، كما يعكس وعيَ النخبة التونسية لمخاطر مثل هذا النهج الفئوي والحزبي القائم على المحاصصة وعلى التغريب لهوية المجتمع التونسي كوحدة اجتماعية وسياسية متجانسة يحكمها دستور واحد، يعلي مصالحَ الدولة والمواطن على جميع النزعات والترّهات الحزبية .
ترافقت سنواتُ ظهور حركة النهضة على المسرح التونسي سياسياً وحزبياً وبرلمانياً مع تحديات كبيرة للبلاد، اقتصادية وسياسية، وقد يكون أبرزُها تحدي الهوية للدولة التونسية الذي لم تواجهه قبل ظهور الحركة على الساحة التونسية، فالمجتمع السياسي التونسي ظل عقوداً من الزمن؛ ومنذ الاستقلال، مثالاً للعلمانية، مبادئاً وتطبيقاً، وترسّخت ثقافتُه على البنى العلمانية كنهج وطني وقاسم مشترك لكل أطياف المجتمع على مختلف انتماءاتهم الحزبية والجهوية، ويمكن تلمّسُ مسارات القوى والأحزاب التونسية الوطنية وخطها البياني الصاعد الرافض لنهج تنظيم الإخوان ممثلا بحركة النهضة، من خلال رصد التقارب والتفاهم بين الكتل البرلمانية على مختلف مشاربها وحواضنها الحزبية، والسعي لتشكيل جبهة موحدة لمواجهة محاولات الحركة الرامية إلى إحداث شروخات بين صفوف منافسيها والتسلل ببطء نحو مراكز العمل الحكومي ومؤسسات الدولة في مسعى لمصادرة استقلالية وقرار السلطة التنفيذية، وبدا ذلك جلياً في مراحل تشكيل الحكومات التونسية مؤخرا .
اتجاهُ الأزمة الداخلية التي تعصف بحركة النهضة تصاعديّ، ومن المؤكد أن مستقبلَها لن يكون كأَمْسها القريب على الساحة التونسية لأسباب بنيوية ووطنية، أما الأسبابُ البنيوية فتتمثل في الشرخ الذي أحدثته عريضة المئة عضو ضد الغنوشي بصفتيه الشخصية والاعتبارية، وما تضمنته من اتهامات له على المستويات كافة، وهي اتهاماتٌ تلاقت وتقاطعت مع اتهامات خصومهم للحركة ولزعيمها، وهذا يعني حتما تصدعاً عضوياً داخلها يؤسس لتناحرات وانقسامات تهدد راهنَ الحركة ومستقبلها، وتُقلّص حظوظَها في مجمل العملية السياسية لاحقاً، إضافة إلى أن العريضةَ رفعت جداراً للقطيعة بين تيارين أو جيلين أو نهجين، وسيكون عنواناً لمسار الحركة مستقبلا . أما الأسباب الوطنية فتنبع من مقاربات سياسية متناقضة طرحتها الحركة على مدار سنوات انخراطها في العمل السياسي على الساحة التونسية، والتي لم تكمل العشر، حيث اتسمت مقارباتُها للوضع الداخلي بتناقض المواقف والتقلبات والتنقلات من ضفة إلى أخرى بهدف تحقيق غاياتها وأهدافها الحزبية الإخوانية الضيقة، لكن سرعان ما انكشفت غاياتها فانفض الجمع من حولها، خاصة الأحزاب التي شكلت تحالفات وائتلافات معها في مراحل سابقة، علاوة على أن الحركة لم تقدم مشروعاً وطنياً جامعاً أو موحداً للتونسيين، بل العكس هو ما جرى على يد زعاماتها وكوادرها حين أبدوا في أكثر من مناسبة ومنعطف وطني تمسكهم بإيديولوجية ومعتقد حزبي مُؤَطَّر بفكر تنظيم الإخوان المسلمين العابر للأوطان .
لا يمكن فصلُ الصراع الداخلي في حركة النهضة عن مجمل المشهد السياسي التونسي وعلاقته بما يجري في محيطها العربي والإقليمي، ولا يقتصر الأمرُعلى حرس قديم وآخر جديد فحسب، ولابد من قراءة ذلك من زاوية التجاذبات الحزبية والسياسية والمخاض الذي يشهده البرلمان التونسي لجهة الانزياح الكبير الحاصل ضد حركة الغنوشي ورئاسته للبرلمان. ليس مستبعداً أن تدفع الظروفُ الناشئة، حزبياً ووطنياً وسياسياً، إلى ظهور كتل داخل البرلمان وخارجه من أحزاب وتيارات أخرى تلتقي في مواقفها مع تيار من داخل حركة النهضة ذاتها خاصة بعد أن برز الصراعُ الداخلي على السطح، ليشكلوا رافعةً لعمل وطني يلقي بمشروع النهضة الإخواني خارج مسار تونس الجديدة .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة