أصبح شعار المطالبة بالهوية العراقية يخيف السلطة لأنه يضع حدًا للطائفية التي رسختها إيران وغذتها في العراق.
لم يكن العراقيون يتصورون أن يأتي يوم يتم فيه محاسبة الفاسدين لأنهم انتشروا في جميع مفاصل الحياة، وتحولوا إلى مؤسسات قائمة بذاتها، وتعمل حسب آلية خاصة ومعقدة. لكن مصطفى الكاظمي، رغم هول ما يواجهه، غامر بخوض هذا الرهان الذي كان مستحيلاً قبل أعوام، حتى وصل الأمر إلى تقديم بعض هؤلاء الفاسدين إلى القضاء. وكل ذلك بفضل انتفاضة تشرين، التي أكد رموزها على المطالبة بمحاسبة الفاسدين.
ولا يزال البعض يتساءل ويشكك في هذه الإجراءات، ويعتبرها نوعًا من ذّر الرماد في العيون، لأنها لا تطال سوى شخصيات ثانوية ليس إلا.
مما لا شك فيه، أنه لا يمكن محاسبة الفساد من دون محاسبة الأحزاب التي لها مصالحها الخاصة في ذلك، بل هي تتحكم فيه، رغم وجود هيئة النزاهة وطاقمها التي اتُهمت هي الأخرى بالفساد.
ويخشى كثيرون أن يكون موضوع مكافحة الفساد مجرد تمويه إعلامي ولا يمس جوهر الملفات المعقدة، إذ يتطلب الموضوع الإرادة السياسية القوية، لأن محاسبة شخصيات ثانوية من شأنه أن يعمل على تسويف القضية الأساسية واللجوء إلى تهدئة الشارع والاحتجاجات. وهذه ليست المرة الأولى التي تتعامل الحكومات المتوالية مع الفساد، إذ سبق لرئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي أن أسس مجلس مكافحة الفساد، الذي لم يعمل إلا على ترسيخ طبقة الفاسدين وتقوية شوكتهم. وهذا ما أدى إلى سقوطه تحت مطالب المتظاهرين المشروعة.
يرى البعض أن خطوات الكاظمي لا تعدو كونها معالجة ملفات بسيطة من دون الجرأة على محاسبة حيتان الفساد، وهذه الإجراءات ما هي إلى للتغطية على كبار الفاسدين من المسؤولين، وخاصة أنه لا أحد يتجرأ على محاسبة الفساد الأكبر في المؤسسات العملاقة. وقد وصل حجم الفساد إلى مليارات عديدة.
ومن أجل معالجة هذه الملفات لا بد من موافقة وإيمان الكتل السياسية مثل "النصر" و"الفتح" و"الحكمة"، والحزبين الكرديين، وائتلاف الوطنية وتحالف القوى الوطنية السنية، وبعض الكتل الأخرى على ذلك، ولكن المشكلة القائمة هي أن معظم الشخصيات ضالعة في هذا الفساد.
أما أهم هذه الملفات فهي: استيراد أجهزة كشف المتفجرات ــ السونارـــ ومزاد العملة اليومي، وموارد المنافذ الحدودية، ورواتب الموظفين الفضائيين، وصفقات السلاح مع روسيا وأمريكا، واستيراد المواد الغذائية وملفات بناء المدارس الوهمية، وموضوع الكهرباء والاستيلاء على أراضٍ الدولة وعقاراتها، وطباعة المناهج الدراسية ورواتب المسؤولين وتهريب البترول وتهريب العملة، والجمارك والأدوية وغيرها من الملفات.
هل يتمكن الكاظمي من تقديم الفاسدين إلى القضاء واسترداد الأموال العراقية المسروقة؟
الفساد جزء من خطة مدروسة لتدمير مفهوم الدولة العراقية وهدم أركانها من أجل أن ينتعش الفاسدون، ويستولوا على المليارات من المال العام.
لقد أكدت انتفاضة تشرين على محاسبة الفاسدين، لذلك كان رد فعل المليشيات على ذلك هو القتل والتصفية ضد رموزها، لأنها ساهمت بتوعية المجتمع وإشغال الناس وافتعال الحروب الطائفية ومبدأ المكونات. وأصبح شعار المطالبة بالهوية العراقية يخيف السلطة لأنه يضع حدًا للطائفية التي رسختها إيران وغذتها في العراق. كما يعمل الفاسدون على تجهيل المجتمع وحرمانه من المعرفة والتعليم.
ظلت الحكومات المتوالية عاجزة عن محاسبة الفاسدين لأنها كانت تعمل على أساس المحاصصة الطائفية. ولكن معظم المجتمع العراقي انتبه إلى هذه الظاهرة وأدرك مخاطر الفاسدين على موارده وثرواته، ولجأ إلى التظاهرات والانتفاضات الشعبية، رغم آلة القهر والقتل.
تحول الفاسدون إلى مافيات تعمل على هدر المال العام. وأصبح العراق على رأس قائمة الدول الفاسدة حسب منظمة الشفافية العالمية الذي ذكر في 2019 بأن العراق يحتل المرتبة 6 عربياً والـ 13 عالمياً في سلم الفساد.
ومحاربة الفساد تتطلب أجهزة مخابرات قوية، والقضاء النزيه، وقوة أمنية، وتشجيع القطاع الخاص، وأهم من كل تلك الإجراءات: إشاعة ثقافة النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد. ولا يتم ذلك إلا بإجراء انتخابات مبكرة تقوم على النزاهة والشفافية.
وهذا ما يطالب به الكاظمي، رغم ذلك فإنه بين سندان حيتان الفساد ومطرقة الضغوطات الخارجية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة