حين تتحول طبقة المثقفين الى مجموعة من "الشلل" المختلفة المتصارعة يفقد المجتمع البوصلة، ويضل أفراده الطريق،ويتوهون في دروب الحياة.
على مر التاريخ؛ وفي كل المجتمعات البشرية؛ يشكل المثقفون الطبقة العليا في المجتمع؛ فهم بكل تنويعات اهتماماتهم، وتنوعات توجهاتهم، واختلاف قدراتهم الفكرية يمثلون دليل الطريق، ومرشد الرحلة، ومنارة السائرين في دروب الحياة المتنوعة. المثقفون بالمعنى الحقيقي العميق للكلمة يشعلون أرواحهم نوراً لمجتمعاتهم، سواء جاء هذا النور في كلمة تحرك الفكر، وتلهب نار المعرفة في العقل، أو جاء نورهم صورة تختزل أسفاراً في لمحة عين، أو نغماً يذيب الروح، ويسمو بها في عوالم التجلي السرمدي.
وحين نقول إن المثقفين يشكلون طبقة لا نقصد بها أنهم منفصلون عن المجتمع، أو متمايزون على أفراده، وإنما يتم استخدام مفهوم الطبقة بالمعنى اللغوي المحايد؛ الذي لا يحمل أية أبعاد أيديولوجية. حيث يصف مفهوم الطبقة في اللغة العربية القديمة تصنيف فئات المجتمع بصفة عامة حسب المهنة أو الحرفة، أو طريقة الحياة، فهو تقسيم اجتماعي بالمعنى العام، وليس بالمعنى التراتبي التصاعدي، فكل فئة من فئات المجتمع طبقة مهما كان موقعها، وأيا كانت مهنتها، أو حرفتها، فالأطباء على اختلاف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية يشكلون طبقة، والصوفية طبقة، والتجار طبقة...الخ. لذلك نجد في التراث العربي موسوعات متعددة المجلدات بعنوان طبقات الأطباء، أو طبقات الشافعية أو طبقات المتصوفة...الخ.
فوصف الطبقة هنا يعني الوحدة في مجال الاهتمام، وإن تعددت التوجهات، وتنوعت الإسهامات، واختلفت الرؤى والاختيارات، لأن الطبقة مفتوحة؛ ولا يوجد على أبوابها حراس، وهي إطار عام لا يملكه أحد، ولا يحدد معايير الانتماء اليه أحد؛ يدخلها من يريد بإرادت وبمقدار مساهمته، ويخرج منها من يريد التخلي عن مجال اهتمامها الواسع، ويفضل مجالات أخرى. لذلك فالمثقفون طبقة بكل ما يعنيه هذا المفهوم من معنى لأنهم متنوعون في الاهتمامات، وفي الاختيارات الفكرية، أو الأيديولوجيات؛ وفي مستويات الأبداع ودرجاته، ولكنهم مشتركون في تقديم كل ما ينير العقل، ويرتقي بالنفس، ويسمو بالروح؛ الفكرة صنعتهم، واللغة وسيلتهم، والعيون والآذان مجال تأثيرهم.
لذلك ترتقي المجتمعات والدول، وتتقدم في مسارات الحضارة الإنسانية المتنوعة، والمتعددة بمقدار ما تقدمه طبقة المثقفين فيها من إسهامات، وبنوعية هذه الإسهامات، وترتكس أو تتراجع إذا نكصت طبقة المثقفين، أو تفككت وتحللت، أو تخلت عن دورها ووظيفتها، ووظفت مهاراتها وإمكانياتها لتحقيق أهداف أخري لا علاقة له بنبل الثقافة والفكر، وبقدسية نور العقل. هنا يزول عن المثقفين وصف الطبقة، ويصبحون أفرادا وجماعات صغيرة متناثرة لا تأثير لها، أو أن تأثير بعضها يجهض تأثير البعض الأخر ويدمره.
وأسوأ صورة ممكن يتشكل فيها وضع الثقفين هي أن يكونوا جماعات صغيرة؛ ذات طبيعة مصلحية أنانية ومغلقة، تتنافس فيما بينها على مصالح سياسية أو اقتصادية أو سلطوية فردانية، وهنا يمكن أن يطلق على هذه الجماعات مفهوم "الشلة"، وليس الطبقة.
وقد يظن البعض أن كلمة "الشلة" عامية لا علاقة لها بالتوصيفات الدقيقة للظواهر الاجتماعية والسياسية، وهذا حقيقي لأنها لفظة دارجة في لغة الخطاب العام في الشارع المصري، غير أن واحد من أهم أساتذة العلوم السياسية الأمريكيين نقل هذا المفهوم إلى الاستخدام العلمي في كتاب صدر منذ ما يقارب الأربعين سنة. فقد نشر "روبرت سبرنجبورج" عام 1982 كتاباً بعنوان "الأسرة والسطوة والسياسة في مصر: سيد بيه مرعي.. جماعته وتابعوه ودفعته" Robert Springborg، Family, Power, and Politics in Egypt: Sayed Bey Marie- His Clan, Client, and Cohort. في هذا الكتاب استخدم المؤلف مفهوم "الشلة" ليصف علاقات هذه المكونات الثلاثة "جماعة الأصدقاء ودفعة الدراسة والمتبوعين المعتمدين على محور "الشلة".
وهذا الاستخدام الدقيق لمفهوم الشلة يصلح لتوصيف الكثر من الظواهر الاجتماعية في العديد من بلدان العالم الثالث، ومنها الظاهرة الثقافية، وذلك حين يفقد مفهوم الطبقة وجوده الفعلي تتحول الظاهرة الثقافية إلى مجموعات من "الشلل" المتناحرة والمتعاكسة في كل ما تفعله؛ بحيث يكون مردودها الاجتماعي معدوم الوجود، أو سلبي التأثير، لان بعضها يجهض إنجاز وتأثير البعض الآخر، واهتماماتها تنصب في الغالب على مصالح ضيقة بعيدة عن خدمة المجتمع وتنوير العقول، والارتقاء بالإنسان كإنسان بعيداً عن التحيزات الأيديولوجية، أو الانتماءات الحزبية أو المصالح والعوائد والمكانة الاجتماعية.
حين تتحول طبقة المثقفين إلى مجموعة من "الشلل" المختلفة المتصارعة يفقد المجتمع البوصلة، ويضل أفراده الطريق، ويتوهون في دروب الحياة، لأن تلك "الشلل" بدلا من ترشدهم إلى طريق المستقبل تضللهم وترسم لهم طرقاً مختلفة متنوعة تقودهم إلى التيه الكبير في صحراء الوهم والتخلف والرجعية والظلام، أو الأنانية والشهوانية والدرك الأسفل من سلم الرقي الإنساني.
لكي ينهض المجتمع ويرتقي لابد من أن تكون طبقة المثقفين في المقدمة، ولابد أن تتوفر لها السبل التي تمكنها من أداء رسالتها، ولابد من أن ترعى الدولة الثقافية، وتوليها أهمية خاصة، فهي ليست ترفاً ولا كماليات، وإنما هي جوهر وجود المجتمع والدولة، ولابد أيضاً من الحفاظ على تماسك الطبقة الثقافية، وعدم السماح بأن تتفكك أو تتحول إلى "شلل" متنافسة متصارعة على مصالح ضيقة، أو مطامح فردية قصيرة النظر محدودة التأثير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة