بدأ يظهر في الفقه القانوني ومواقف ممثلي بعض الدول توجه لاتخاذ موقف وسط بين الرأي المؤيد والرأي المعارض لتكيف الهجمات السيبرانية على أنها نوع من الهجمات العسكرية.
تحدثنا في مقالات سابقة عن الواقع الجديد الذي أفرزه التطور التقني الكبير، والحاجة إلى وجود تشريعات دولية ووطنية لحوكمة التعاملات والابتكارات الجديدة، لحماية الأمن والسلم الدوليين من أي إساءة لاستخدام هذه التقنيات.
لقد شهد العالم في السنوات الماضية زيادة مطردة في حوادث إساءة استخدام التقدم العلمي، من خلال شن هجمات سيبرانية لتحقيق أغراض مختلفة، هذه الأغراض قد تكون إجرامية، يقوم بها أفراد للحصول على أموال أو معلومات، وقد تكون عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، مصدرها جهات مرتبطة بدولة ما، بقصد على سبيل المثال، ممارسة نوع من الإكراه على الدولة المستهدفة، أو تدمير منشأة حيوية فيها، أو الاستيلاء على أسرار عسكرية أو صناعية فيها، وبالتالي التأثير على قدراتها.
إن التعامل مع هذه الفرضيات يختلف من حالة إلى أخرى، ولكن في هذا المقال، نحاول أن نركز على الهجمات السيبرانية التي تنفذ من دولة ضد أخرى.
فإذا تعرضت منشأة حيوية في بلد ما لهجمة سيبرانية، فهل يمكن اعتبار هذه الهجمة على أنها نوع من الاعتداء المسلح، بالمفهوم الوارد في المادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة؟ وبالتالي يخول الدولة المستهدفة القيام بإجراءات انتقامية لإيقاف هذه الهجمة أو منع تكرارها، باستخدام القوة العسكرية، وذلك انطلاقاً من حق الدفاع عن النفس، المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
إن تفسير مفهوم القوة ليشمل جميع أنواع الهجمات السيبرانية أمر محل خلاف كبير بين فقهاء القانون الدولي، أحد أسباب هذا الخلاف هو التخوف من أن التوسع في تفسير مفهوم القوة ليشمل جميع أنواع الهجمات السيبرانية، قد يؤدي إلى خلق حالة من عدم الاستقرار في العلاقات الدولية، أو التأثير على السلم والأمن الدوليين من خلال التوسع في مفهوم استخدام القوة العسكرية تحت غطاء حق الدفاع عن النفس.
في المقابل، بعض الهجمات السيبرانية قد تنتج عنها آثار مدمرة، لا تقل عن الآثار التي تقع من اعتداء مسلح تقوم به دولة ضد دولة أخرى.
لذلك بدأ يظهر في الفقه القانوني ومواقف ممثلي بعض الدول توجه لاتخاذ موقف وسط بين الرأي المؤيد والرأي المعارض لتكيف الهجمات السيبرانية على أنها نوع من الهجمات العسكرية، هذا الموقف يقوم على التركيز على الآثار والدمار المادي والبشري الذي ينتج عن الهجمة السيبرانية.
هناك رأي وسط بين فقهاء القانون الدولي بشأن تكييف الهجمات السيبرانية، هذا الرأي يسلم بأنه لا يمكن في حالات معينة تجاهل الآثار المترتبة على الهجمات السيبرانية، وأن هذه الآثار قد تصل في بعض الأحيان إلى مستوى التعرض لهجوم مسلح. لذلك اتجه أصحاب هذا الرأي إلى اقتراح عدد من المعايير في الهجمة السيبرانية حتى يمكن تكيفها بأنها تعادل استخدام القوة العسكرية وتبرر بالتالي اللجوء إلى حق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. هذه المعايير ترتبط بآثار الهجمة السيبرانية على الدولة المستهدفة ومدى جسامتها، فإذا ترتب على الهجمة السيبرانية وقوع أضرار مادية أو بشرية جسيمة في المنشأة المستهدفة بصفة فورية، فإن هذه الهجمة يمكن أن تؤسس لادعاء الدولة المُستهدفة بأنها تعرضت إلى اعتداء، وأنها تمتلك حق الدفاع عن النفس باستخدام مختلف الوسائل بما فيها القوة العسكرية وفقاً لنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. فحدوث هجمة سيبرانية على سبيل المثال في محطة إنتاج غاز طبيعي أو مصفاة نفط ونتج عنه حدوث دمار وخسائر بشرية في المنشأة المستهدفة نتيجة للهجمة السيبرانية التي قامت بها جهات مرتبطة بدولة أخرى، يبرر للدولة المستهدفة الادعاء بتعرضها لاعتداء مُتعمد من تلك الدولة. فمجرد فقدان بيانات حساسة أو توقف المنشأة عن العمل لوقت معين أو سرقة أسرار عسكرية أو صناعية أو عدم وقوع دمار مادي ملموس لا يرقى إلى تصنيف الهجمة على أنها تدخل في مفهوم القوة. وبالمثل، في حالة تأخر وقوع الدمار المادي للمنشأة عن وقت حدوث الهجمة السيبرانية على نحو يفسر بانتفاء الفورية أو السببية بين وقوع الهجمة السيبرانية وحدوث الآثار المدمرة للمنشأة المستهدفة، فإن هذه الهجمة لا يمكن أن تصنف على أنها نوع من استخدام القوة، فجسامة الضرر الواقع والفورية في وقوعه بسبب الهجمة التي نفذت من جهات مرتبطة بدولة ما، تعتبر معايير مقبولة لدى عدد من فقهاء القانون الدولي في تصنيف الهجمة السيبرانية على أنها نوع من القوة وفقاً لنص المادة 4/2 من ميثاق الأمم المتحدة.
كما سبق وأن ذكرنا أن هذا الأمر من المسائل الجديدة التي لا يوجد فيها حتى الآن توافق واضح على تصنيف الهجمات السيبرانية، وسيتطلب الأمر وقتاً من الزمن لصياغة تناسق في مواقف وممارسات الدول والوصول إلى موقف قانوني واضح بشأن تصنيف الهجمات السيبرانية ونوعية الردود المشروعة من الدول التي تتعرض لمثل هذه الهجمات. ولكن أصبح من المسلم به بأن بعض الهجمات السيبرانية المتعمدة ممكن أن تصل إلى حد الاعتداء المسلح بالنظر إلى حجم الدمار والخسائر المادية والبشرية التي ممكن أن تحدثه وبالتالي تبرر اللجوء إلى حق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة