يوم الأرض بغزة.. حناجر صادحة ونعوش طائرة
عائلات بأكملها، ذوو الاحتياجات الخاصة، كبار السن، زحفوا جميعهم في مسيرات "العودة" التي انشقت عن رحم غزة المحاصرة.
فاقت التوقعات، بحشودها الجامحة، عائلات بأكملها، ذوو الاحتياجات الخاصة، كبار السن، زحفوا جميعهم في مسيرات "العودة" الجمعة، التي انشقت عن رحم غزة المحاصرة، لترى النور في ذكرى شهداء يوم الأرض الفلسطيني.
محمد واحدٌ من حشد شبابي سلمي، نصب خيمة مع أترابه، للتعبير عن موقف الشباب من كل ما يحدث وما يتعرض له في الفترة الأخيرة، خرج واجتهد لكي يدافع عن مستقبله، بعد أن تخرج، وجلس في بيته المستأجر، دون أن يجد فرصة عمل، رغم محاولاته المضنية،
منذ 4 أعوام، وهو يحاول، تم ابتزازه وفرمه في برامج التطوع، وشبع قلبه من الوعود الكاذبة، على أمل التوظيف، انكسرت جميع مجاديفه في بحر متلاطم الأمواج من الأزمات، وخروجه اليوم ونصب الخيمة أمام العدو كان قرارا عميقاً بالنسبة له، رغم مناشدات والدته، كي لا يذهب حرصاً على سلامته، ولأن الأعداء لا يرحمون، لكن رده كان مقنعاً لها عندما قال: "ما الفرق بين أن أكون ميتاً بين يديكِ، أشرب وأرتع، وأن أموت وتنتهي معاناتي؛ على الأقل بالنسبة لي؟".
واحتضنت والدته حسرته اليوم بوداع أخير جمعها به أمام ثلاجة الموتى، ترفع يديها إلى السماء، وهي تطلب من الله الرحمة لولدها، وأن يخلّص أقرانه من هذا البلاء، الذي دفع محمد إلى الموت.
وعلى بعد عدة فراسخ ثمة قصة آخرى لشهيد جديد هو جهاد النجار، فهو كمحمد أبوعمرو انتقلا من أرض يدب عليها الناس إلى أخرى سكنت بما حوت، ورفعت الروح عن الجسد، فهو في العشرينات من عمره،كان في الثانية عشرة يوم أن دخل قطاع غزة مرحلة الانقسام الداخلي، قضى ما بعدها في الدراسة، والركض خلف طموحه، الذي لم يكن شيئاً مستحيلاً بل متواضعاً جداً .
كل ما أراده النجار بعد تخرجه قبل سنة من الجامعة، أن يجد وظيفة ولو براتب متواضع، وأن يتزوج بمَن أحبها، ويؤسس أسرة، ويرى أولاده، كان هذا كل ما يشغل باله، ولكن طموحاته البسيطة عصية على حياة شباب اليوم في غزة وظروفها.
ذهب النجار لمسيرة العودة التي آمها آلاف الفلسطينيين، ليخرج من حالة الإحباط، ويمسك ولو مرة واحدة بناصية القرار، مواجهاً ولو بروحه العارية، مصيره، لم يكن مسلحاً ولا مدججاً بالذخيرة، ولكنه مندفع بعزيمة الشاب الطموح، ليوصل رسالة سلمية إلى عدوه والعالم أن "انتبهوا لنا نحن معشر المحاصرين في هذا القطاع المعزول"، لكن هذا الكلام غير المسموع في ضجيج هادر قرب السياج، والمحبوس في صدر النجار ورفاقه، كان صراخاً مزعجاً يؤلب النفس عند قناص إسرائيلي رابض خلف المكعبات الإسمنتية العميقة، أسكت صراخه برصاصة قاتلة أصابت النجار الذي حُمل شهيداً على الأعناق بزفة مفاجئة وأصحابه يحملون جثمانه إلى عالم الغيب، يترحمون عليه، وبعضهم من بكى، وأمه وحدها من حفرت قبره في صدرها لتدفن فيه ما غزلته له من آمال وأحلام، كلها اليوم ماتت، ووحده الوجع يولد من جديد.
أما عمر أبوسمور، كأنه مختلف في المسعى، والسير نحو السياج، استيقظ باكراً، لكي يطرد عن جبينه شمس يوم قائظ، لم ينتبه لما يجري من ترتيبات لمسيرة حاشدة، فوق أرضه، أو ربما انتبه، فخشي على محصوله الزراعي من الخراب، بفعل الخطى والتوافد، فأحدهم نصحه بأن يبكّر قبل وصول الحشود إلى أرضه، فيحصد "البقدونس"، هذا الفعل كلفه حياته، بيد أن القناص المتمترس منذ الليلة الماضية في برجه الإسمنتي، وجدها فرصة ذهبية، لقتله ليرهب مَن سيأتي بعده، وتفشل المسيرة، هكذا فكر الجندي، ولكن عمر مات فوق أرضه، وأصيب مرافقه، وجاءت الحشود لكي تحمله على الأعناق، وكان في موته حافزاً لمن ساورته نفسه، أن يتخلف عن الخروج والمشاركة في المسيرة.
مات عمر، وبقي "البقدونس" ينتظر حصاده، والحياة لم تنته، وإن غرقت صفحاتها بالدماء، فبعد عمر أبناؤه، لمحاصيل كثيرة، في حياة شعب لا يزال يتطلع لحلمه، مهما اشتدت عليه النائبات، يتطلع إلى دولة وعيش بسلام، بعد 70 عاما، قضاها في غزل حلمه، ووخز جسده بأشواك المحاولة والحرمان، والأرض من سخنين إلى غزة هي نفسها الحلم الذي لا ينتهي.