أبرزها الانقسامات الداخلية.. ملفات تنتظر بابا الفاتيكان القادم

على مدى 12 عاما من حبريته، قاد البابا فرنسيس الكنيسة الكاثوليكية في مسارات جديدة، غير أن مشروع التحديث واجه مقاومة داخلية شرسة، ولا تزال العديد من الملفات الكبرى دون حسم.
بوفاة البابا فرنسيس في 21 أبريل/نيسان الجاري، يُفتح فصل حاسم في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.
عندما انتُخب عام 2013، اعتبره كثيرون بابا انتقاليًا، إلا أن خورخي ماريو برجوليو فاجأ الجميع بانتهاجه خطًا جديدًا قاد الفاتيكان نحو قضايا مجتمعية لطالما كانت موضع حساسية لدى بعض المؤمنين والكهنة، مثل مكانة النساء، ووضع المطلقين، بحسب محطة "فرانس. إنفو" التلفزيونية الفرنسية.
ومع ذلك، اصطدمت هذه الرغبة غير المسبوقة في التحديث بمعارضة قوية من داخل المؤسسة، وترك البابا العديد من الملفات مفتوحة دون إغلاق.
وبعد 12 عامًا من قيادة اتسمت بالسعي الحذر للتوازن بين التقليد والرغبة في الإصلاح، يبقى السؤال مطروحًا: هل سيواصل خليفة البابا الأرجنتيني النهج ذاته، أم سيعود إلى تشديد القيود؟ فيما يلي، نستعرض أبرز الملفات الشائكة التي تنتظر الحبر الأعظم المقبل.
مكافحة العنف الجنسي والتمييز القائم على النوع
يُعد ملف الاعتداءات الجنسية على القاصرين من أحلك الصفحات في عهد فرنسيس. فقد شهد البابا تفجر سلسلة من الفضائح في جميع أنحاء العالم، واعتبر هذا التحدي "من أعظم ما يواجه الكنيسة في عصرنا"، بحسب صحيفة "لوموند".
في عام 2019، دعا إلى قمة عالمية غير مسبوقة في الفاتيكان حول حماية القُصر. كما رفع السرية البابوية عن قضايا الاعتداء الجنسي، وأدخل إصلاحات على القانون الكنسي لتجريم هذه الأفعال صراحة. وتمت معاقبة عدد من رجال الدين.
لكن رغم هذه الإجراءات، لا تزال هناك نقاط ظل كثيرة: ففرنسيس لم يلتقِ يومًا بأعضاء اللجنة المستقلة المعنية بالتحقيق في الاعتداءات الجنسية في الكنيسة الفرنسية، والتي كُلفت بها بطلب من مؤتمر الأساقفة الفرنسيين، وقد أصدرت هذه اللجنة تقريرًا صادمًا عام 2021.
كما أن سر الاعتراف لا يزال محميًا دون مساس، وعدم اعتراف البابا صراحة بالطابع "المنهجي" للمشكلة غذّى انتقادات عديدة. البابا القادم سيكون تحت ضغط شديد
من الجمعيات والضحايا، الذين يطالبون بوضع آليات رقابية مستقلة لإنهاء الإفلات من العقاب داخل المؤسسة الكنسية.
مكانة النساء في هرم السلطة الكنسية
منذ انطلاق السينودس عام 2021، بدأ البابا فرنسيس بفتح المجال أمام النساء والعلمانيين للمشاركة في الحكم الكنسي، في سابقة تاريخية. وخلال حبريته، ارتفعت نسبة النساء في الإدارة البابوية من 19.2% إلى 23.4%، بحسب "فاتيكان نيوز".
شخصيات بارزة مثل باربرا جاتا، مديرة متاحف الفاتيكان، والأخت رافاييلا بيتريني، الأمينة العامة لدولة الفاتيكان، أصبحت رموزًا لهذه التقدمات الخجولة.
ورغم أن فرنسيس أشاد بـ"العبقرية النسائية" عام 2016، كما أوردت أويست فرانس، فإنه لم يفتح الباب أمام النساء لممارسة الأسرار الكنسية المقدسة، فلا كهنوت ولا شماسية لهن.
بل ذهب عام 2023 إلى التأكيد أن هذا الموضوع قد "أُغلق" منذ عهد يوحنا بولس الثاني، وفق تصريحات نقلتها مجلة "لا في" المسيحية. هذا الموقف خيّب آمال التقدميين، وأرضى المحافظين.
وسيجد البابا القادم نفسه أمام ورشة عمل غير مكتملة، مع مركزية متزايدة لمسألة دور النساء في الكنيسة.
وسيتعين عليه أيضًا التعامل مع الخطوط الحمراء التي رسمها فرنسيس، خصوصًا حول قضية الإجهاض، الذي وصفه عام 2018 بأنه "نوع من تحسين النسل يرتدي قفازات ناعمة".
كما تقول الصحفية "بينيديكت لوتو" على محطة "تي. في 5 موند" الفرنسية: "صحيح أن فرنسيس فتح نظرة جديدة تجاه النساء داخل الفاتيكان، لكن سلطتهن ما تزال رمزية إلى حد كبير... نعم، بدأ النقاش، لكن لماذا لا نمضي أبعد؟ أهو الخوف من أن ذلك سيقود إلى كهنوتهن؟".
دور الفاتيكان الدبلوماسي في عالم متصدع
ليس فقط قائدًا روحيًا بل أيضًا رئيس دولة، سعى فرنسيس لمنح الدبلوماسية الفاتيكانية مكانة محورية على الساحة الدولية.
وحمل لقب "بابا آخر العالم"، وكان أول حبر أعظم يُنتخب من خارج أوروبا، واستثمر في رحلاته الـ47 حول العالم لترسيخ صورة كنيسة قريبة من الأطراف المهمشة.
من العراق إلى أفريقيا الوسطى، فضّل زيارة مناطق النزاعات. وساهم الفاتيكان عام 2014 في التقارب التاريخي بين كوبا والولايات المتحدة. كما دخل التاريخ من أوسع أبوابه بزيارته إلى بغداد عام 2021، حيث بادر إلى حوار غير مسبوق مع الإسلام الشيعي.
غير أن سجله يبقى متباينًا، لا سيما بشأن أوكرانيا، حيث لم تجد دعواته المتكررة للسلام صدى ملموسًا. بل إن دعوته عام 2024 إلى "رفع الراية البيضاء" أطلقت عاصفة دبلوماسية. أما الاتفاق مع الصين، الموقع عام 2018 والمجدد حتى اليوم، فسيظل ملفًا شائكًا، إذ أخفق فرنسيس في تطبيع العلاقات مع بكين كما كان يأمل، بحسب "فرانس إنتر".
العلاقات مع موسكو، المقطوعة بفعل الحرب الأوكرانية وتأييد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لفلاديمير بوتين، بحاجة أيضًا إلى إعادة بناء، خصوصًا بعد إعلان الرئيس الروسي عدم حضوره جنازة البابا.
كما سيُطلب من الحبر الأعظم المقبل أن يحدد موقفه في توازنات الشرق الأوسط المعقدة. كان فرنسيس قد أطلق نداءات متكررة لوقف إطلاق النار في غزة، وطالب بتحقيق معمق في الأوضاع داخل القطاع الفلسطيني، لتحديد ما إذا كانت ترقى إلى "إبادة جماعية"، وهو ما أثار غضب السلطات الإسرائيلية.
انقسامات داخلية متزايدة
خلال حبريته، هز فرنسيس البنية المؤسسية للكنيسة كما لم يفعل سواه. فقد أعاد هيكلة الكوريا الرومانية بهدف تعزيز اللامركزية ومنح الكنائس المحلية دورًا أكبر، وذلك من خلال دستور رسولي جديد دخل حيز التنفيذ عام 2022.
كذلك، بدأ بإصلاحات مالية جذرية، من بينها إنشاء أمانة للاقتصاد، وتطهير بنك الفاتيكان عبر تجميد خمسة آلاف حساب مشبوه. إلا أن هذه التغييرات أثارت انقسامات حادة. ففرض قيود على إقامة القداس باللاتينية عام 2021 أثار غضب التقليديين.
التحدي الكبير أمام خليفة فرنسيس سيكون الحفاظ على وحدة مؤسسة باتت منقسمة بشدة. الانقسام بين المحافظين والإصلاحيين، خاصة حول قضايا اجتماعية وحوكمة الكنيسة، يهدد تماسك الكاثوليكية العالمية. ففي حين تعارض بعض كنائس إفريقيا وأمريكا اللاتينية تطورات مثل قبول المثليين، تطالب كنائس أوروبا وأمريكا الشمالية بتعميق الإصلاحات.
كما يشير المؤرخ شارل ميرسييه لوكالة الصحافة الفرنسية: "هامش المناورة المتاح للبابا كان محدودًا إلى حد بعيد"، محذرًا من خطر حدوث انشقاق كامن.
البابا الجديد سيكون مضطرًا إلى اتخاذ خيارات واضحة: إما مواصلة الدفع باتجاه الانفتاح، أو إغلاق الأبواب التي فُتحت على استحياء.
aXA6IDE4LjIyNS41NC4zNyA= جزيرة ام اند امز