وفاة يوسف القرضاوي.. محاكمة الأفكار تظل ضرورة
توفي يوسف القرضاوي، القيادي والمفكر الإخواني، والرئيس السابق لما يسمى بـ"الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" عن عمر ناهز 96 عاماً.
للموت مهابة لا تتسق مع نقد الرجل، لكن هذا لا يمنع من محاكمة أفكاره التي سعى لنشرها خلال حياته، فالفكرة كما يقال "لا تموت" بموت صاحبها.
ولد يوسف القرضاوي في قرية "صفط تراب" بمحافظ الغربية في ٩ سبتمبر/أيلول عام ١٩٢٦، والتحق بالأزهر الشريف وتدرج في صفوفه، والتحق بتنظيم جماعة الإخوان خلال دراسته بالقاهرة.
وألقي القبض عليه عام ١٩٤٩ بعد مقتل النقراشي واشتعال الأزمة بين الحكومة والإخوان، ثم تخرج من كلية أصول الدين عام ١٩٥٣، وفي عام ١٩٦٠ حصل على دراسات تأهيلية تعادل الماجستير، وفي نفس العام انتقل إلى قطر ليعمل فيها مديراً للمعهد الديني الثانوي، وبعد استقراره هناك حصل على الجنسية القطرية.
وفي عام ١٩٧٣ حصل على درجة الدكتوراه، وفي سنة 1977 تولى تأسيس وعمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر وظل عميداً لها إلى نهاية 1990.
سمحت الجنسية القطرية ليوسف القرضاوي بالتحرك عالمياً لصالح تنظيم الإخوان، فأصبح مديراً لمركز بحوث السنة والسيرة النبوية بجامعة قطر، ورئيسًا لما يسمى بـ" الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" إلى أن استقال وخلفه تلميذه المغربي أحمد الريسوني.
وقام بتأسيس ورئاسة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، كما كان الرئيس السابق لجمعية البلاغ القطرية الممولة لشبكة "إسلام أون لاين" حتى 23 مارس/آذار 2010، ورئيس هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي ومصرف فيصل الإسلامي بالبحرين، وعضو مجلس الأمناء لمنظمة الدعوة الإسلامية في أفريقيا، ونائب رئيس الهيئة الشرعية العالمية للزكاة في الكويت.
شهرة مصنوعة
صنع تنظيم الإخوان شهرة القرضاوي، باعتباره شيخا وسطيا يملك فكرًا تجديديًا، وكونه قطريا حصل على فقرة ثابتة في قناة الجزيرة تحت عنوان "الدين والحياة"، وحمل البرنامج توجهاته الفكرية والفقهية ورؤيته السياسية.
ورغم تلك الشهرة الواسعة التي لم تتح لأقرانه من الفقهاء، لا يحظى القرضاوي بتقدير الكثير منهم، ليس لافتقاره لأدواته الفقهية، بل لخلطه بين مقاصد الشريعة لعموم المسلمين، وبين الخيارات السياسية لتنظيم الإخوان، وهو ما ظهر واضحاً في أحاديثه ومحاضراته، كما أدار معارك حزبية مذهبية لم يجنى المسلمين منها أي فائدة.
التحول بعد الوسطية إلى التحريض
يضعنا القرضاوي في مأزق شديد عند محاكمة أفكاره، لأن أفكاره التي روج لها الإخوان، وقناة الجزيرة قبل ما يسمى بـ"الربيع العربي" ومدونة في الكتب تتحدث عن الحفاظ على المجتمع، وتسعى إلى التروي والتوقف عن التكفير وإراقة الدماء، وكثر الحديث عنه كمفتي تجديدي وسطي يملك القدرة على فهم الحال، وإطلاق الفتوى الصحيحة.
لكن تحولا حاداً وجذرياً مّر بالقرضاوي، أثناء وبعد الربيع العربي، فقد طغت شخصية الإخواني على روح الفقيه داخل عقل ووجدان القرضاوي، فانحاز بكل جوارحه للإخوان واختياراتهم السياسية والحزبية، فهاجم رؤساء دول عربية، كان في السابق يثني عليهم، ويمدحهم ويقبل هداياهم، ثم انقلب على وسطيته وسلميته إلى التحريض على استخدام الأسلحة والرصاص والمفرقعات في صراع الميليشيات الإسلاموية ضد الجيوش النظامية الوطنية، مما هدد سلامة المواطنين الأبرياء والذي سقط منهم الكثير جراء تلك الفتاوى الحادة
الطبيعة الإخوانية المخادعة
لا أحد يعلم ولا أحد يمكنه أن يعلم إذا كانت تلك هي أفكاره الحقيقية وكتمها عن الناس مرحلية حتى يحظى بالشعبية ثم يوجه من يؤمنون به إلى أفكاره الحقيقية في اللحظة المناسبة، أم أن الأحداث كانت أكبر منه ومن غيره وأراد أن يبقى في قلب الحدث فأفتى بتلك الفتاوى الحادة حتى لا ينصرف عنه الناس، فقد أفضى إلى ما قدم.
لكن من المؤكد أن العنصر الإخواني يمتلك القدرة على إخفاء حقيقة أفكاره وتوجهاته ويتلون حسب الأحوال، ويستوي في ذلك كافة عناصر الجماعة الإرهابية سواء كان طبيباً أو عالماً أو أستاذا جامعيا أو حتى ما كان.
في النهاية لم يكن سهلاً على المتابعين تقبل هذا التحول فضلاً عن فهمه، فكيف لمن كتب عشرات الكتب يحذر من سفك الدماء يتحول في نهاية عمره إلى مفتى للدماء، ويساهم في تخريب العديد من الدول العربية بزعم تأييد الإسلاميين في الوصول للحكم، أن ما قام به القرضاوي يعد خطراً على الوعي الإسلامي، فلم يعد أحد يثق في الفقهاء وخطهم الوسطي، فمن المحتمل أن ينتكسوا كما انتكس أشهرهم.
ونظراً لقوة الرجل تنظيميًا تمكن من غرس نظرة توجس نحو الفقهاء المخالفين له في الرؤية السياسية ووصفهم بالجبن والخوف وموالاة الحكام، مثل ما تحدث به ضد الشيخ الدكتور محمد سعيد البوطي، الفقيه والعالم السوري الذي انحاز بفقهه إلى دولته ووطنه وجيشه والأهم لمجتمعه، وقال عنه "الشيخ سعيد رمضان البوطي من بقايا العلماء وفقد هويته وعقله".
ورغم أن البوطي اختارته جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في دورتها الثامنة عام 2004 ليكون "شخصية العالم الإسلامي"، باعتباره "شخصيةً جمعت تحقيقَ العلماء وشهرةَ الأعلام، وصاحبَ فكرٍ موسوعيّ"، واختاره المركز الإسلامي الملكي للدراسات الإستراتيجية في الأردن في المركز 27 ضمن قائمة أكثر 500 شخصية إسلامية تأثيرًا في العالم لعام 2012، ويُعتبر ممن يمثلون التوجه المحافظ على مذاهب أهل السنة الأربعة وعقيدة أهل السنة، رغم كل هذه المكانة أجاب القرضاوي عندما سأله المذيع، هل يجوز استهداف من يساند النظام السوري؟ ليرد "من يكون مع النظام عسكريين مدنيين علماء جهلاء يجب أن نقاتلهم جميعا".
وسرعان ما تلقفت المليشيات المسلحة الفتوى وقاموا باغتيال البطوي في مسجده الخميس 21 مارس/آذار عام 2013، وذلك أثناء إعطائه درسًا دينيًا في مسجد الإيمان بحي المزرعة في دمشق، عندما قام تفجيرًا انتحاريًا بتفجير نفسه بالقرب منه مما أودى بحياة البوطي و42 شخصًا من بينهم حفيده بالإضافة إلى إصابة 84 آخرين بجروح.
وكانت النتيجة الحتمية لانتكاسته عن المنهج الوسطي أن يتورط في التحريض على شخصيات بعينها، واندفع بعض عناصر الإخوان الشباب المؤمنين بكلماته وارتكبوا أعمال عنف واغتيالات والتفجيرات، وعلى إثر بلاغات تتهمه بالتحريض على قتل جنود مصريين ومهاجمة شيخ الأزهر، قام النائب العام هشام بركات بوضع اسمه على قوائم ترقب الوصول في سبتمبر/أيلول 2013.
كما أصدرت المحكمة العسكرية المصرية حكماً بالسجن المؤبد في يوم 17 يناير 2018، على يوسف القرضاوي، بتهمة التحريض على العنف في قضية اغتيال الضابط وائل عاطف طاحون عام 2015.
وفاة القرضاوي اليوم لا تعني وفاة أفكاره، ولا تعني فتح أبواب الهجوم على شخصه بقدر ما هي فرصة للاقتراب من أفكاره النهائية والحقيقية، ومحاكمتها وتحذير النشء منها.
aXA6IDEzLjU4LjM4LjE4NCA= جزيرة ام اند امز