داعش لم يترك كنيسة وقعت تحت سلطته إلا وهدمها. وما رأت قطعانه مسيحياً إلا وقتلته، أو هجرته أو مسيحية إلا وسبتها.
وامتدت الهجمات الانتحارية التي شنها التنظيم إلى كنائس في بغداد، فقتلت العشرات ومن بعدهم العشرات، حتى فر مئات الآلاف من وطنهم.
ولكن عندما جاء بابا الفاتيكان إلى بغداد، لم يُطلق تنظيم داعش طلقة واحدة، ولا شن هجوماً على أحد، واختفت القطعان، وكأنها أخذت إجازة من "الجهاد".. أفهل عرفت السبب؟
كتبت لي أختي من بغداد تقول: البابا فرنسيس زار الشمال والجنوب والوسط من دون سيارة مصفحة. ولم تُطلق طلقة واحدة، لا من مسدس ولا من رشاش. وعم الهدوء والسلام لثلاثة أيام وكأن العراق أصبح سويسرا. وتم استقبال البابا بحفاوة عالية، كما تمت إحاطته بكل أنواع الهلاهل والرقصات والأهازيج والملابس الفولكلورية، وعم التآخي بين الطوائف العراقية، وكأنه شعب سويدي واحد. ولم نرَ قتالاً بين الفصائل ولا عبوات ناسفة تستهدف البسطاء المعدمين، ولا قام أي أحد بتعكير الأجواء المخملية.
الأكراد لم يطالبوا بحصتهم من الميزانية الاتحادية، وبغداد لم تطالبهم بحصتها من نفط كردستان، وتبادل الطرفان عبارات التآخي، حتى اعتقد العرب والأكراد أنهم انتقلوا إلى بلد آخر.
البابا تجول بين الناس، دونما خوف من شيء ولا خشية من اضطراب. صافح وحيّا، برفقة كل المسؤولين العراقيين الذين حرصوا على أن يلتقطوا لأنفسهم صورا معه، وذلك على اعتبار أن الصورة شهادة براءة من الموبقات.
واختفى الفساد، وعاشت الخزينة العراقية أحلى أيامها، حتى إن إيران لم تطلب من الحكومة العراقية تسديد الديون.
ولم يتم اغتيال شخص واحد من النشطاء، وأصبحت "ساحة الحبوبي" في الناصرية، وكأنها "تايم سكوير" في نيويورك، أو "ترافلغر سكوير" في لندن.
ولم يقل أحد كلمة واحدة حول الانتخابات التي سيفوز بها بما لديه من رعاع. ولا نافسه أحد على صفقة لتعيينه رئيسا للوزراء.
فجأة، أصبح كل شيء تماماً، الإرهابيون أصبحوا مواطنين شرفاء، وكتائب "أهل الحق" و"حزب الله" و"بدر" وغيرها عقدت مصالحة مع نفسها ومع الإرهاب. وغلبت الحماسة إلى حد أن تم إطلاق دعوة إلى عقد حوار شامل بين جميع الفصائل والأحزاب والمليشيات والمحتجين والمتظاهرين، وبين القاتل والمقتول.
قالت: "بين هذا وذاك، وعلى اختلاف كل الألوان، فإن اللاعب واحد، وإن تشعبت الخيوط. هذا هو ملخص الزيارة".
أفهل عرفت من هو ذلك اللاعب؟
لن أقول لك من هو، استعن بذكائك، وستعرف من الذي صنع داعش، ومن الذي ترك له المال والسلاح والمعدات في الموصل لكي يتحول إلى دولة.
ثم لن تعجز عن رؤية أن ذلك اللاعب كان يقتل من العراقيين السنة، كلما قتل داعش من العراقيين الشيعة، وكأنهما اتفقا على شيء واحد.
أفهل رأيت العامل المشترك؟ أم أنك تحتاج إلى عينين إضافيتين؟
البابا جاء إلى العراق وهو يعتقد بأشياء كثيرة، ولكن بدت وكأنها اعتقادات خاطئة، فلم يرَ فقرا ولا أهوالا ولا مشردين.
أما الفصائل التابعة لإيران، فقد تحولت جميعها إلى فصائل محترمة. حتى إنها لم تنتظر المهدي المنتظر في تلك الأيام. ولم تطلق صواريخها على القوات الأمريكية. وساد الاعتقاد بفائدة أن ينتقل الفاتيكان من روما إلى بغداد، لفرط ما رأت المدينة سلاماً في بلد لم يهنأ بيوم راحة منذ عام 2003.
وبرغم أن العراق يعاني من أزمة كهرباء، تحولت إلى مناسبة لعقود مع شركات، تعقبها شركات، وتناوبت على حلها كل الفصائل وكل المليشيات، إلا أن البابا فرنسيس لم يرَ شارعا مظلماـ بل إن الأضواء ومصابيح الزينة حولت كل الطرقات التي مر بها وكأنها في حفلة عيد ميلاد.
في ختام رسالتها، بعثت لي أختي صورتين؛ الأولى لزقورة أور السومرية وهي مضاءة، والثانية لشاحنة تمضي في طريق العودة.
قالت: "اللي عنده رقم البابا، خلي يخابره، ليقول له: مولدة الكهرباء التي أنارت الزقورة شالوها. يمكن رجعت إلى إيران".
لم تمضِ أيام من بعد ذلك، حتى "عادت حليمة إلى عادتها القديمة"، فتجددت الاغتيالات وأعمال الترويع ضد المتظاهرين، لتقول إن هدنة المليشيات كانت مجرد تمثيلية خداع على مسرح نفاق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة