في الثالث والعشرين من نوفمبر تشرين الثاني المنصرم، اختتم المنتدى العالمي التاسع لتحالف الحضارات فعالية، في المغرب،
بإصدار ما عرف بـ "إعلان فاس"، والذي يعتبر خطوة إضافية في طريق تثاقف الأمم وتناغم الحضارات.
موقع وموضع اللقاء، يحملنا على التفكر في الإرث التاريخي لتعايش الثقافات والحضارات على مر التاريخ، ومن دون حتمية جبرية لصراعات مذهبية، أو حروب طائفية، وبعيدا عن أعمال التمييز العنصري، فقد عاش المغاربة وضيوفهم من مقيمين وزائرين، ضمن حدود تلك المدينة، في وئام وسلام، ولا يزالوا حتى الساعة.
يأتي "إعلان فاس"، والعالم على عتبات، يقول الخبراء في علوم الاقتصاد، إنها ركود عالمي يختبئ خلف الباب، فيما يحذر الأطباء من فيروسات ربما تشكل جوائح جديدة، أما رجال العسكرية، فيضعون احتمالات لانفلات الصراعات، لا سيما الروسي – الأوكراني، ليتحول إلى حرب عالمية.
إنها لحظات صعبة تمر بالإنسانية، ولا يمكن تجاوزها والعبور فوقها، إلا من خلال تجنيب العالم الكراهيات، والعصبيات، وذوبان الخلافات، لا سيما المتعلقة بملفات ساخنة، طرحت في منتدى تحالف الحضارات الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ العام 2001 .
لا يزال عالمنا منشقا حول بعضه، ارتكازا على قضايا الهوية والتراث، والهجرة والتمييز العنصري، أما التعصب الديني وأزمات الإسلاموفوبيا، فحدث عنها ولا حرج، وما لم يتم وضع حدود نهائية لتصاعد بعضها أو كلها، فإن عالمنا لن يعرف سلام في الحال أو الاستقبال.
في هذه الأوقات العصيبة، وعالمنا يواجه تحديات حرجة، على رأسها التحدي البيئي، تحتاج البشرية إلى ترسيخ قيم الحوار والتفاهم والتسامح، وكذا الإنصات إلى لغة العقل والحكمة، وحتى تبرد الرؤوس الساخنة بما تحمله من مخاطر صدامات تنشأ في العقول، وتجد مساربها إلى السهول والوديان.
ولعله من أنفع وأرفع ما جاء في "إعلان فاس"، التأكيد على حرية التعبير وحرية المعتقد، فقد ذهب المشاركون في أعمال المنتدى والذين تجاوزوا 1500 مشارك، مثلوا فودا رسمية لدول وحكومات، فضلا عن مؤسسات وهيئات مجتمعية مهمومة ومحمومة بواقع الحوار العالمي، وعلى رأسهم الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونير غوتيريش، إلى أن الحريتين مترابطتين بشكل وثيق، وتعززان بعضهما البعض، ومعتبرين أنهما الطريق لمحاربة كافة اشكال التعصب والتفرقة القائمة على الدين أو المعتقد.
جاء ترحيب "إعلان فاس" بطلب غينيا الاستوائية لاستضافة الاجتماع الإفريقي لتحالف الحضارات للأمم المتحدة سنة 2023، ليؤكد على أن هناك عقولا لا تزال تفكر بحزم وتعمل بعزم، سيما أن هناك من يود تحويل القارة الإفريقية إلى خلفية لوجستية للصراعات المذهبية والعرقية، الطائفية والدينية، لتشتعل الصراعات ومن جديد حول العالم، فيما هذا الاختيار، يفتح العيون والآذان على أنجع السبل وأفضل الآليات لمحاربة كافة أشكال التعصب والتطرف.
يأتي هذا الإعلان ليواجه واحدة من أسوأ ملامح ومعالم عالمنا المعاصر، ونعني الشعبويات المغلقة، تلك التي تشوه جماليات تعبير،" الشعوب والقبائل "، المتوسم فيها أن تتعارف وتتثاقف، تتنافح، وتتلاقح، في طريق بشرية أكثر انسانوية .
الذين يفكرون بعقلية الشعبويات، هم ألد أعداء حوارات الحضارات، وكارهو تواصل الثقافات، ومفجرو مواجهات الدوجمائيات، ذلك لأن ما يتكلمون عنه، ليس شعبا بكل معنى الكلمة، بل جماعات عنصرية.
أما الشعب، فهو المنفتح على الأخر، الحي والديناميكي، ذاك الذي له مستقبل، والساعي للقاء تركيبات جديدة تشكل المغاير حول البسيطة من أدناها إلى أقصاها من غير أدن محاصصة، ولا يكون ذلك بإنكار الذات، بل بالاستعداد للتحرك والسؤال والتوسع الذي يغني الآخرين، ويطور الذات بعيدا عن الشعور بالصغر أو الدونية.
يذكرنا "إعلان فاس"، والبحث عن مساقات التقي الحضاري، أن هناك حاجة فعلية للعمل معا من أجل حل الصراعات، لا إخفاءها في الأخطاء والذنوب الجسيمة، فالمصالحة الحقيقية لا تتهرب من الصراع، بل تتحقق فيه، إذ تتخطاه عن طريق الحوار، والتفاوض الشفاف، والصادق والصبور.
تبدو عملية الحوار الحضاري مسألة حتمية في عالمنا الحاضر، ومواجهة حالة من الصمم، ما يعني ضرورة جلوس الشعوب بعضها إلى جوار بعض، والاستماع لبعضها البعض.
كارثة عالمنا المعاصر تتمثل في تلاشي الصمت والإصغار للأخر، وتحويل كل شيء إلى نقرات ورسائل سريعة ومشحونة بالقلق.
وفي الوقت عينه يتوجب الإشارة إلى أن حوار الحضارات الخلاق، يتوجب أن يتحلل من الصبغات والصيغات الفوقية، ونحن نرصد بعض الدول الناجحة اقتصاديا، والمصابة بمتلازمة الفوقية الحضارية، وكيف تعمل عل تقديم نماذج ثقافية للدول التي هي في قيد التطور، بد من العمل على أن ينمو كل بلد بأسلوبه الخاص، ويطور قدراته على الابتكار انطلاقا من قيمه الثقافية.
هل من ميزة يمكن للمرء استنتاجها من "إعلان فاس"؟
حكما يعني تآخي الحضارات والأمم والشعوب، السير في دروب المذهب التوفيقي
ولا إلى جبرية استيعاب الواحد الآخر، وإنما يفيد بخلق إطار كوسمولوجي، من الوحدة المتعددة الأوجه، والتي تولد فيها حياة جديدة للإنسانية في العقود القادمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة