في العيد الحادي والخمسين لدولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، يعن للمرء أن يتوقف أمام أحد أهم انتصاراتها الأدبية والأخلاقية،
في معركتها العالمية ضد الكراهية والخصام، ورؤيتها القائمة على تعزيز المودة وإفشاء الوئام، وذلك من خلال نموذج التسامح الخلاق والإيجابي، ما يجعل منها اليوم دولة ذات رسالة عالمية، تمضي بها عبر دروب عالم مصاب بالتشظي، من قبل دعاة العنصرية وحملة رايات الكراهية.
في الطريق إلى المئوية، تؤكد وتجدد الإمارات، على نهجها القائم على رباط التضامن الإنساني المشترك، والتسامح في القلب منه، وجوهره الاعتراف بحرية وكرامة كل إنسان، بغض النظر عن انتماءاته العرقية والثقافية، الدينية والإيديولوجية.
رؤية التسامح الإيجابي الشامل التي تمضي الإمارات في دروبها، وترفع علمها خفاقا في سماوات الكرة الأرضية، تنطلق في واقع الأمر من مفهوم إسلامي عميق، ذلك أن الإسلام لا يكتفي بتعليم أتباعه هذا التسامح الشامل بوصفه شرطا من شروط السلام الضروري للمجتمع الإنساني، بل يطلب منهم أيضا الالتزام بالسلوك العادل الذي لا يقبل بالأخر فحسب، بل يحترم ثقافته وعقيدته وخصوصياته الحضارية، ولهذا فإن خير وصف يمكن أن نطلقه على هذا التسامح، أنه تسامح إيجابي وليس تسامحا حياديا. وفي هذا يقول القرآن الكريم في سورة الممتحنة الآية 8 :"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".
ولعل الناظر إلى واقع حال الخطوط العريضة للسياسات الإماراتية الخارجية والداخلية، يمكنه أن يرصد وبدون عناء، قدرة عالية على وصل الخطوط، ونسج الخيوط، مع كافة شعوب الكرة الأرضية، بمذاهبها المختلفة وأعراقها المتباينة.
كما أن واقع الحال المعاش على الأراضي الإماراتية، يظهر المدى الذي وصلت إليه القناعات الحكومية والشعبوية، ومن النخبة والعوام، تجاه قبول الأخر، ما يتجلى وبصدق في إتاحة دور العبادة لكل مقيم باحترام كبير لعقيدته وقناعاته الروحية، ومن غير أدنى فوقية من السلطات الإماراتية، والتي كانت سباقة في تجريم ازدراء الأديان، وقطع الطريق على أصوات الكراهية الزاعقة، ومنع راياتها الفاقعة.
ما أكسب التجربة الإماراتية على صعيد التسامح العالمي فرادتها، وما يمهد الطريق لنصف قرن قادم أخر من الانتصارات الأدبية والأخلاقية، نظرتها لاختلاف الجماعات البشرية في أعراقها وألوانها ومعتقداتها ولغاتها، وكيف أنها لا تمثل حائلا يعوق التقارب والتسامح والتعايش الإيجابي بين الشعوب، فقد خلق الله الناس مختلفين.
آمنت القيادة الإماراتية الرشيدة، تلك التي أرسى قواعدها "زايد الخير"، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، بأن الاختلاف بين الناس لا ينبغي أن يكون منطلقا أو مبررا للنزاع والشقاق بين الأمم والشعوب، بل الأحرى أن يكون هذا الاختلاف والتنوع دافعا إلى التعارف والتعاون والتآلف بين الناس، من أجل تحقيق ما يصبون إليه من تبادل للمنافع، وتعاون على تحصيل المعايش، وإثراء للحياة والنهوض بها.
أنفع وأرفع ما قدمته الإمارات في العقدين الماضيين، ومع بداية الألفية الثالثة للميلاد، تلك التي أراد البعض لها أن تكون ألفية قطع وصدام، لا ألفية وصل ووئام، أنها فتحت أبوابها للحوار والمتحاورين، والحوار هو الخطوة الأولى نحو التعارف والتعاون في جميع المجالات.
والشاهد أن الذين قدر لهم المشاركة في العديد من الفعاليات العقلانية التي دارت وتدور على أراضي الإمارات، يدركون مدى انسجام النظرية مع التطبيق، فلا تضيق الدولة المضيافة برأي طالما لا يخالف النظام العام، ولا يعكر السلم الأهلي والمجتمعي، ولسان حال البلاد والعباد، يتسق مع ما ذهب إليه الإمام الشافعي في مقولته التسامحية والتصالحية الرائعة:" رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب ".
ضربت الإمارات ولا تزال مثالا رائعا، يندر أن يوجد، على قدرة أتباع الأديان على عيش التسامح كتجربة ثرية غنية، لا سيما أنها الدولة الخليجية والشرق أوسطية الأولى في التاريخ التي تفتح أبواها بمحبة وترحاب لبابا الفاتيكان، ولشيخ الأزهر معا، لتكتب بذلك تاريخا للأجيال القادمة، تاريخ يحمل دعوات العيش الإنساني الرحب، والقفز فوق أشواك ومآسي الماضي القديم، تلك التي تسببت في جراحات غائرة حتى الساعة في نفوس الكثيرين على الجانبين العربي والأوربي.
عمق فكر التسامح الإماراتي، رؤية صادقة رائقة لمفهوم المواطنة، ذلك المصطلح العصراني، الذي أضحى بمثابة عهد ورباط دولي، لا يمكن النجاح من غيره، والذي يتجاوز عصور التباين والتمايز الدوجمائي والعرقي بنوع خاص.
تسامح الإمارات وتصالحها مع قبائل وشعوب الأرض، هو ما دفعها ولا يزال لمد يد العون للقاصي والداني حول الكرة الأرضية، وهو ما شهد لها به العالم أجمع، وبخاصة في أوقات الأزمات الإنسانية، كما جرى الحال في زمن جائحة كوفيد-19، وعلى الصعيد الخاص بالجهود المبذولة لإنهاء الأزمة الأوكرانية، عبر تقديم ما يلزم لفك أسرى المأسورين، وإعانة المهجرين واللاجئين.
ويبقى القول، أن تجربة الإمارات في التسامح، تنتظرها آفاق واسعة، ونجاحات واعدة خلال العقود القادمة.
إنها تجربة المشاركة الإيجابية التي ترفض موقف المتفرج، بل تسعى لأن تكون أداة محركة لمياه صافية رقراقة تصب في سهول ووديان النفوس البشرية، أملا في السلام ودفعا للخصام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة