ربما كانت الشمس أمامنا طوال الوقت لكننا أغلقنا أعيننا.. هل تفاجأنا حقا عندما أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إغلاق 10 إذاعات لها بعشر لغات، بينها العربية والفارسية، وتسريح نحو 400 من موظفيها حول العالم؟.. نعم ولا!
الخبر أثار ردود فعل مختلفة، معظمها تضامن مع الزملاء الذين سيفقدون وظائفهم، واستعادة لذكريات مختلفة ارتبطت بالإذاعة العربية لـ"بي بي سي".
كانت الإذاعة وقت ظهورها طريقة ثورية لإيصال الأخبار.. يكفي أن تمتلك جهاز راديو حتى يأتي الخبر لحظيا إليك، ومع الخبر تأتي خطب الزعماء السياسيين وخطابات الملك، حتى الأغاني جاءت أيضا عبر الأثير.
بثت الإذاعة التعليمات وقت الحرب وساعدت على إيصال الدعاية الموجهة إلى الداخل لرفع المعنويات، والموجهة إلى الخارج لإضعاف معنويات الخصم.
يقول يوفال نواه هراري في كتابه "العاقل" إن إذاعة "بي بي سي" وقت الحرب العالمية الثانية كانت تبث صوت ساعة "بج بن" بشكل مباشر إلى المناطق التي احتلتها ألمانيا النازية في أوروبا.. كان الصوت تعبيرا عن صوت "الحرية"..
لم تنتهِ القصة هنا، فالعلماء الألمان استطاعوا عن طريق صوت دقات الساعة واختلافه من يوم لآخر تحديد حالة الجو في لندن، وهي معلومات كانت ذات قيمة عالية للقوات الجوية الألمانية، التي تصب قذائفها فوق لندن.. وعندما فطنت الأجهزة الأمنية في بريطانيا أنها تقدم معلوماتٍ مجانية للعدو طلبت من "بي بي سي" إذاعة صوت مسجل لـ"بج بن".
في الحقبة التالية، عندما كانت الحرب الباردة على أشدها بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، كانت إذاعة "أوروبا الحرة"، التي تدعمها الاستخبارات المركزية الأمريكية، هي صوت الدعاية الغربي ضد الأيديولوجيا الشيوعية، وهو الصوت الذي كان بإمكانه الوصول إلى الدول الواقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي.
إذًا، الإذاعة كانت وسيلة ليس فقط لإيصال الأخبار، ولكن أيضا لتوصيل الأفكار بمختلف أنواعها، سواء كان يبثها مذيع مهندم من شارع "الشريفين" بالقاهرة، أو ثوري يلبس لباسا عسكريا أخضر من وسط أحراش كوبا.
تطورت وسائل الوصول إلى عقل العامة بعدها.. اقتطع التليفزيون جزءا كبيرا من جمهور الإذاعة، وازداد هذا الجزء مع تحول البث التليفزيوني من الأبيض والأسود إلى الألوان، وعندما أصبح اقتناء جهاز تليفزيون أيسر من ذي قبل ودخل كل بيت، ثم أتى الإنترنت فاتحا المجال لسحر لا نهائي.
مع زيادة سرعات الإنترنت لجأت إليه الأجيال الجديدة لمعرفة الأخبار ومتابعة الأفلام والمسلسلات، وللتعلم أيضا، وداخل عالم الإنترنت تحول الاهتمام من منتج لآخر.. فمن حقبة كانت فيها المنتديات والمدونات هي الأكثر انتشارا، والدردشة عن طريق "ياهو ماسنجر" هي الأكثر تطورا، إلى ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها "فيسبوك"، فأزاحت القديم وأصبحت المنتديات مجرد أرشيف قديم، والمدونات صحراء جرداء مع صِفْر زوار سنويا، واستولى "واتس آب" وتليجرام وغيرهما من تطبيقات الدردشة عبر الهاتف على عرش "ياهو ماسنجر".
الآن دعني اسألك، انظر حولك وقل لي كم من أصدقائك أو أقاربك الذين تزوجوا حديثا لديه جهاز راديو؟ وكم منهم لديه جهاز تليفزيون؟ ودع أجهزة الهاتف المحمول، التي تحتوي على تطبيق راديو خارج اللعبة.. أظن أن الإجابة ستكون في حدود 10% أو أقل لأجهزة الراديو، وأكثر من 90% لأجهزة التليفزيون.
تضاءل جمهور الإذاعة بشكل ضخم، وأصبح يقتصر على مجموعة من كبار السن لديهم ارتباط عاطفي بالإذاعة أو سائقي السيارات والحافلات، الذين لا يمكنهم مشاهدة تليفزيون أثناء القيادة.
مع تحول جديد داخل عالم الإنترنت، كان من الواضح أن القديم إلى التلاشي والزوال.. ففي الوقت نفسه تقريبا، الذي أعلنت فيه "بي بي سي" إغلاق خدمات إذاعتها بعشر لغات، أعلنت أيضا إذاعة "راديو سوا" الأمريكية -الناطقة بالعربية- إغلاق بثها عبر الأثير والاكتفاء بالبث عبر الإنترنت.
التحول الجديد المشار إليه هو التحول من سيطرة "فيسبوك" على شبكات التواصل الاجتماعي إلى "تيك توك".. فالأخير استطاع جذب الشباب وصناع المحتوى، ولم تقدر شركة "ميتا" -مالكة موقع فيسبوك- شراء التطبيق مثلما فعلت مع غيره "واتس آب وإنستجرام" على سبيل المثال.
وفي الوقت الحالي تواجه "ميتا" منافسة شرسة من "تيك توك"، ما جعلها تلجأ لإجراءات قاسية، مثل التخلي عن أحد مقارها في نيويورك لتوفير النفقات، وكذلك تجميد أي تعيينات جديدة في الشركة، مثلما ذكرت مصادر لموقع "بلومبيرج".
هذه المعركة بدأت تؤثر في زيارات المواقع الإخبارية الإلكترونية، وتنقلنا من عصر "الزيارات" إلى عصر "المشاهدات"، حيث يتقدم المحتوى المرئي "الفيديو" على المكتوب في اهتمامات الجمهور.
هي سُنة الحياة، الجديد يحل محل القديم ويزيحه من مكانه ليفسح المجال لمنتجات جديدة، ومفاهيم جديدة أيضا.. ما نتمناه ونطلبه ألا يكون تسريح العاملين هو الحل الأيسر، الذي تلجأ إليه المؤسسات عند الانتقال لوسيلة جديدة للوصول إلى الجمهور المستهدف.. فلماذا لا يتحول مراسل الراديو إلى مراسل للتليفزيون؟ ولا يتحول مهندس الصوت من الإذاعة إلى صناعة البودكاست؟ لماذا لا يتم تدريب الصحفيين على استعمال وسائط جديدة وإعطائهم فرصة للتحول قبل التسريح؟ لماذا لا يتم تسجيل اللقاءات الإذاعية ورفعها على مواقع مثل "ساوند كلاود" أو كـ"بودكاست"؟ ولماذا لا يتم تسجيل اللقاءات، وحتى النشرات، من داخل الاستديو الإذاعي ورفعها على مواقع فيديو مثل يوتيوب وغيره؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة