صحونا منذ أيام على خبر عصْف قوانين التطوير بإذاعة "بي بي سي"، عبر وقف بثها بـ10 لغات، بينها العربية، وتسريح 382 عاملا في خدماتها العالمية "توفيرا للنفقات".
إنها عجَلة التطور المتسارع، التي تدور لتفرم كل مَن لا يدور في فلكها ولا تضع في حساباتها لا تاريخ ولا جغرافيا، ولا تسمّي على أحد.
في مقالي السابق -"تاريخ البحث عن لقمة العيش"- تحدثت عن المهن التي تنقرض والمهن التي تتطور.. ويأتي مثال الإذاعة البريطانية خير شاهد على الحديث.. فقد برر بيان الإغلاق أن جُل المستمعين يتابعون "بي بي سي" من خلال التليفزيون أو مواقع الإنترنت.. هنا مربط الفرس.
حين اضطرت إدارة "بي بي سي" بسبب الضغوط المادية -على حد قولها- إلى الاستغناء عن إحدى خدماتها، استغنت فورا عن الأقل تطورا والأقل جذبا لجمهور اليوم، من وجهة نظرها.
فلن تستغني بالطبع عن الأكثر رواجا لأنه هو الذي يدر عليها الدخل الأكبر.. لم تنظر الإدارة إلى العراقة أو إلى البدايات.. لم تستدعِ لذاكرتها فضل الإذاعة فيما وصلت إليه.. لم تُلقِ بالا لبسطاء يعتبرون تلك الإذاعة هي التسلية الوحيدة لهم.
يذكر الأستاذ أحمد البديري، الذي كان يعمل مراسلا لـ"بي بي سي" لمدة 9 سنوات في القدس، عبر منشور له على موقع "فيسبوك" تعليقا على الخبر، أنه صادف ذات مرة سائق تاكسي في عمّان عرفه من صوته بمجرد أن نطق كلمتين بالعدد، وقال له: "أنا لا أغير عن الإذاعة من 30 سنة وحافظ كل واحد فيها".
أصبحت المؤسسات الإعلامية بين شقي الرحى.. بين صراع مع غيرها، ليس فقط من المؤسسات الأخرى، بل والأفراد والقنوات الصغيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، على عدد المشاهدات التي أصبحت أولى الوسائل التي تدر دخلا تنفق به المؤسسة على نفسها، والرسالة التي تريد إيصالها ومعركتها كي لا تفقد محتواها وتنجرّ وراء موجات التفاهات، التي لا تنفع الناس ولا تمكث في الأرض.. فكيف لها أن تحافظ على هُويتها التي تندثر شيئا فشيئا وتعصرها تلك العجَلة "التطويرية"، التي لا ترحم.
لم يكن المذيع وهو يقول "هنا لندن" منذ أكثر من 80 عاما في واحدة من أكبر المؤسسات الإعلامية يتصور أن خدماتها بـ10 لغات ستتوقف يوما "توفيرا للنفقات" في ظل أزمة اقتصادية عالمية طاحنة.
المخيف هنا ليس فقط تنحية الاعتبارات الجماهيرية والإرث الإعلامي والصحفي لمؤسسات إعلامية عريقة.. المخيف حقا هو الجري وراء الرائج.. فهل سنظل نغلق كل ما لا يلقى رواجا ونعدو وراء "التريندات" حتى نفقد كل قيمة؟!
ألم يكن ثمة حل يزيد عدد مستمعي الإذاعة ويحافظ على جمهورها الحالي؟
في رأيي، لكل وسيلة إعلامية جمهورها المخلص.. للإذاعة جمهور لا يرضى بديلا عنها، ولو تطورت الوسائل كلها.. السائق على الطريق، والذي لا يجد ما يسليه إلا تلك الإذاعة التي تبث له أغنيّته المفضلة أو تعطيه ما يحتاج إليه من أخبار أو حتى تبث له برنامجا مسليا يكسر ملل الزحام.. وتلك العجوز التي لا يغنيها شيء عن برامجها الإذاعية المحببة، وهي تعد وجبة أحفادها.. فهؤلاء جمهور موجود بالفعل، وبقي جذب الجمهور الجديد من الشباب.
يمكننا جذب جمهور من الشباب للإذاعة عن طريق إنتاج ما يناسبهم من برامج يقدمها شباب في مثل سنّهم بأسلوب يتناسب معهم وجذبهم لسماعها بالإعلان عن محتواها في مقاطع فيديو قصيرة على منصات يتابعونها باستمرار.
الحل ليس الإغلاق والاستغناء عن وسيلة تلو الأخرى بدعوى تقديم ما يريدُ الجمهور.. الفكرة هذه نفسها خطيرة.. الصحافة مهنة تقود ولا تُقاد.. من المفترض أن تغير الرأي العام للأصلح، لا أن يغيرها الرأي العام لما يهوى.. ذلك أن فكرة تعدد المنصات والوسائل مفيدة بحد ذاتها لمخاطبة مختلف التوجهات والأعمار وتلبية احتياجات خلفيات أوسع من الناس.
الإذاعة تعطينا هذا النوع من الهدوء والسماح لنا بفلترة المعلومات ومعالجتها داخل أدمغتنا وإصدار رأي فيها بالإيجاب أو نقدها ورفضها.. والتليفزيون له هذه الميزة البصرية التي تجعلنا نتعايش مع الحدث كأننا نشهده.. ووسائل التواصل الاجتماعي لها ميزة السرعة والوصول، حيث يوجد المتلقي لحظة بلحظة.. بهذه الطريقة نستفيد من ميزة كل وسيلة على حدة، ولا يكون المعيار هو الرائج، بل المفيد والأصلح لكل مهمة بحد ذاتها.
المشكلة أن العكس هو ما يحدث الآن بسبب السعي وراء عدد المشاهدات، لا عدد المعلومات التي يتلقاها المشاهد نفسه، وبسبب الصراع للفوز بوقت المستخدم والاستفادة المادية من كل دقيقة في عمره، أصبحت المنافسة الآن على الأقصَر وقتا.. وبالتالي بانتشار مقاطع الفيديو -بمعناها الحالي- لم يعد للمتلقي صبرٌ أصلا على قراءة مقال رأي.. ثم أصبح يمل حتى من الفيديو الطويل حين ظهر "تيك توك" ذو مقاطع 3 دقائق.
نحن نلهث لإدخال أكبر كم من المدخلات إلى عقولنا، حتى دون معالجة، فلا تثبت معلومة في أدمغتنا، فضلا عن معالجتها ونقدها وفصل الحسَن من القبيح.. فلماذا لا نحافظ على الوسيلة الوحيدة تقريبا التي تحفظ لأدمغتنا هذه الميزة العلاجية وتنمي الخيال ومهارات التفكير لدينا؟
مهنة الصحافة بالأساس لم تكن تهدف للربح، ولم يكن "الجورنالجي" في أوائل القرن الماضي من علية القوم، لأن راتبه كان ضعيفا جدا.. ولا يمتهن تلك المهنة إلا من يؤمن بقدرها، لأنه يريد أن يُغير شيئا لدى شعبه أو بلاده.. ليس الحل أن نعود للماضي ونحط من قدرها ماديا.. لكن المقابل المالي بالنسبة للمؤسسات الصحفية لا يُفترض أن يكون الأساس.. وكما أن الرجال يُعرفون بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال، لا يجب أن تنقلب الآية ويغير الرأي العام الصحافة بدلا من أن تغير الصحافة الرأي العام.. مَن يُعلّم مَن؟ ومَن يُفترض أن يقود مَن؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة