لا تزال الهجمات الانتحارية تلقى رواجًا بين التنظيمات الإرهابية، خصوصًا في السنوات الأخيرة.
هذه الهجمات أصبحت أشد دموية مع مرور الوقت وتعدد وسائل التفجير ما بين سيارات مفخخة وأحزمة ناسفة حتى الوصول إلى دراجات مفخخة، كثيرًا ما تستخدمها جماعة الشباب الإرهابية بالصومال -فرع تنظيم القاعدة الإرهابي في القرن الأفريقي- هي وأخواتها من التنظيمات الإرهابية الفاعلة في أفغانستان والعراق ودول الساحل الأفريقي.
وهناك من الفتاوى ما قدمته الجماعات الإسلاموية، التي أسبغت صفة "الشرعية" على هذا الفعل الشنيع وألصقته بالإسلام عبر فهمها الركيك تارة، وتطويع النصوص التراثية لتحقيق أجندتها السياسية تارة أخرى، وأخطر تلك الفتاوى هي التي تنقل الخطاب التنظيمي والحركي السري بطبيعته إلى عامة الناس على الهواء مباشرة عبر فتوى "دينية".
العمليات الانتحارية ليست بالظاهرة الحديثة ولم تكن يوما حكرا على أيديولوجيا معينة، فأقدم ما سجله التاريخ عن هذا النوع من الاغتيالات كان في المائة الأولى قبل الميلاد، وقد نفذته جماعة "سيكاري" الدينية ضد الرومان، ونشاهد أيضا أن طائفة "الحشاشين الباطنية" استخدمته ضد أعدائها من الفاطميين والعباسيين، وحتى "الصليبيين".
لكن من الناحية العملياتية كانت كتيبة "النمور السود" في حركة نمور التاميل الانفصالية هي أول من نظم هذا النوع من الهجمات، وذلك بالتزامن مع "حزب الله" الإرهابي، الذي تخلى عن هذا التكتيك مؤخرا، قبل أن يرتبط "الحزام الناسف" بالأيديولوجيا "الدينية" على يد "داعش" و"القاعدة" الإرهابيَّين.
وعلى المستوى الفردي، فإن مرتكبي هذا النوع من العمليات يأتون من خلفيات "دينية وعرقية وتعليمية" مختلفة، ومستوى اجتماعي ودخل مادي متنوع، ومستوى تدين متفاوت، فلا يمكن الوصول إلى نموذج واحد للحكم به على الإرهابي بأنه انتحاري.
ولكن يوجد نمط متكرر وعامل مشترك يسترعي الانتباه، وهو أن الهجمات الانتحارية دائما ما تُستخدم للأهداف الصعبة أولا، وثانيا عندما يراد بها إسقاط أكبر عدد من الضحايا، وقد طوّره تنظيم "داعش" الإرهابي لما يسمى بـ"الهجمات الانغماسية"، بحيث يحقق الهدفين معا.
ومن الناحية التنظيمية، فهذا النوع من الهجمات يمكّن قادة التنظيم الإرهابي من التحكم بمقاتليه وتوجيه الأهداف، خصوصا إذا ما تمت عمليات التفجير عن بُعد، دون المخاطرة بالقبض على الانتحاري وما سيترتب على هذا القبض من تحقيقات وكشف أسرار التنظيم، بالإضافة إلى ذلك، لوحظ أن هذه التنظيمات تدفع عناصرها الأقل خبرة ومهارة إلى الهجمات الانتحارية، وفي حالات كثيرة أقدم "داعش" على الزج بـ"المتشككين والمترددين" في هذه الهجمات كوسيلة منه للتخلص من حلقاته الأضعف، عكس أعضاء التنظيم ذوي المهارات التنظيرية والمسؤولين عن التجنيد والتمويل، فهؤلاء يشكلون قيمة أكبر من "المقاتلين العاديين" الذين يُنظر لهم كـ"عَلَف حرب" من قبل قادة المجموعات الإرهابية.
هنا كان بإمكان "الفتوى" أن تلتقي بالتكتيك، ففتوى إباحة الهجمات الانتحارية ذكرت نصا أن "التدبير يكون بيد الجماعة، فهي المتصرف بجسد أفرادها حسب الحاجة"، لذا تُختطف الفتوى الدينية لتتطابق مع أدبيات العنف، لتجعل من لغة الموت أمرا مقدَّسا، وإنْ كان لأهداف سياسية قصيرة المدى، تجعلنا نقف طويلا لندرك خطورة الأيديولوجيا وما يتبعها من الخطابات التحريضية والفتاوى الخطيرة، التي أهلكت الحرث والنسل، وأودت بحياة كثير من الأبرياء واستغفلت عقول الشباب.. ما يزيد المسؤولية والحاجة إلى تفكيك هذا الإرث الفاسد من الخطاب العنيف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة